ها هي الذكرى الأولى تحل، والأمل كل الأمل في ان تمر بهدوء وسلام، كما يمكن ان يتمنى الشهداء رفيق الحريري ورفاقه. يصح ان نتوقع ان قوى الشر قد تسعى الى إفساد الذكرى وتشويهها، فحذار. تجربة الأحد قرب القنصلية الدانماركية كانت انذاراً يجب أخذه بجدية. لا أحد ولا شيء يفترض ان يمنع احياء الذكرى أو يستغلها للتخريب والترهيب، لكن العام الذي مضى أعطى للجميع فكرة عن الانقسام الحادث في البلد، الموروث منذ زمن، المعمق في ظل نظام الهيمنة، المبرمج بفعل أفاعي النظام الأمني السابق وسمومها.

جاء 14 شباط (فبراير) ولا يزال التحقيق في محاولاته للايقاع بالقاتل المعروف والمعلن، قد يطول أكثر مما نعتقد، قد يدخل في متاهة، قد ينجح «الشهود» المزيفون في تضليله. وللأسف، للأسف الشيديد، ان هذا التحقيق لم يستطع ان يشتبه بطرف آخر غير النظام الأمني اللبناني - السوري الذي يعرف العالم من كان يقوده ويسيره. للأسف ايضاً، انه أريد لهذا الاغتيال ان يلحق بسلسلة اغتيالات قبله منع التسلط والارهاب كشف الحقيقة بشأنها.

للأسف كذلك، ان هناك فئات وقوى في لبنان أرادت التعامل مع هذا الاغتيال بالنسيان والتجاوز، مستكينة الى انه جزء من طبيعة الأشياء في هذا البلد.

كانت لحظة الاغتيال هي اللحظة التي أعلنت فيها سورية أنها ستسحب قواتها من لبنان. وكان ذلك بداية ثمن الانسحاب، ويبدو ان الحساب لا يزال مفتوحاً ولن يغلق إلا بحدث كبير آخر بحجم اغتيال الحريري وأكبر. اللبنانيون اعتبروا ان ذلك الانسحاب بداية استعادتهم للاستقلال، لأنه لم تتح لهم الفرصة ليودعوا القوات السوريين المنسحبين على نحو آخر يليق بالتضحيات الحقيقية التي قدموها من أجل إنهاء الحرب الأهلية بمعزل عن ممارسات نظام الهيمنة. لكن بعض اللبنانيين فقد معنى الاستقلال، أو بات يرفضه، لمصلحة مراهنات مكشوفة، فهو لا يرى للبلد مصيراً آخر غير ان يكون تحت وصاية خارجية ما، وبالتالي يريدونه ان يفاضل بين الوصايات وان يفضل واحدة على أخرى. وبعد ذلك الاغتيال، كان من الطبيعي والضروري توقع استمرار المسلسل المشؤوم، فراح آخرون يستقلون قطار الشهادة من أجل حرية لبنان واستقلاله، والأرجح ان القطار لم يبلغ محطته النهائية بعد، لكنه قد ينحرف في اتجاه آخر أكثر خطورة باتت تشي به محاولات لاشعال فتنة طائفية جديدة.

ولأجل ذلك يجري الاصرار على ابقاء الدولة ضعيفة، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، اي اقرب الى ما كانت عليه خلال الحرب الاهلية، ليظل لبنان ساحة للمساومات المقبلة. غير ان مريدي الفتنة اصطدموا بأنها ليست على جدول أعمال اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم، لذلك لجأوا الى تحريك الملف الفلسطيني ومحاولة ربطه بـ «سلاح المقاومة»، اي بـ «حزب الله» بصفته الفريق الوحيد المسلح خارج الجيش اللبناني. ومع ذلك فإن هذه الورقة الفلسطينية لم تعد مؤهلة لإشعال فتنة، لذلك التفتت قوى الشر الى معادوة اللعب على التناقضات اللبنانية واختراع «تحالفات» مضللة وغير مجدية.

لبنان ينتظر التحقيق في اغتيال رفيق الحريري، وسورية تنتظر ايضاً. وإذا قدر لهذا التحقيق ان ينتهي قريباً لتوجه الاتهامات وتعقد المحاكمات، فإن أحداً لا يستطيع منذ الآن حصر انعكاسات نتائجه على العلاقات بين الأطراف اللبنانية ومن ثم على العلاقات بين لبنان وسورية. لكن يجب ألا ننسى وصف الحريري نفسه لأي قرار محتمل باغتياله، إذ قال انه سيكون قراراً كبيراً وخطيراً ومكلفاً «لا يمكن ان يتخذه شخص عاقل». لا شك بأنه كان قراراً مكلفاً، لكن الأخطر ان النهج الانتقامي الذي كان وراء ذلك القرار لا يزال هو السائد، وان الشخص غير العاقل الذي اتخذه كائناً من كان لا يزال يتطلع الى اغتيال بيروت بعدما اغتال الشخص الذي ارتبط اسمه بإعادة بنائها.