ما مدى جدية القوى المطالبة بالتغيير في سورية؟ وما هي قدرتها على تحمل أعباء المشروع الوطني الذي يرعى ويطمئن الجميع؟

لقد بات التغيير هو المطلب العام الشامل بالنسبة إلى السواد الأعظم من السوريين على اختلاف انتماءاتهم. فالجميع اصبح مقتنعاً أن عملية الإصلاح التي أتحفتنا السلطة ووعدتنا بها باستمرار لم تكن سوى خديعة لإطالة العمر، وترتيب الأمور من أجل المصادرة على أية إمكانية للإصلاح أو التغيير. وحدها القوى المستفيدة من الوضعية الراهنة هي التي تعارض التغيير، وتسعى بإستمرار من أجل إحباطه، معتمدة في ذلك على أجهزة المخابرات والقمع بمسمياتها ومهامها التي تفوق الحصر، هذه الأجهزة التي تكاثرت وتنامت من جهة الحجم والعدد بصورة غير طبيعية، وذلك لحماية وضع غير طبيعي تشهده سورية منذ عقود.

وقد عبرت القوى السياسية السورية من قومية عربية وكردية، ويسارية، وعلمانية واسلامية، بإستمرار عن رغبتها في التغيير بعد أن وصلت الأزمة البنيوية التي تتخبط فيها السلطة السورية إلى الطريق المسدود، ولم يعد خيار الإصلاح وارداً. فالسلطة التي تعاني الآن من تناحر داخلي عنيف بين أولئك الذين كانوا إلى الأمس القريب أركان بقائها واستمراريتها، أصبحت غير قادرة على تحمل مجرد الدعوة إلى الإصلاح الحقيقي، لعلمها المسبق أن ذلك مؤداه الإجهاز عليها، واقصائها عن معادلة السياسة الداخلية، الأمر الذي لن تسلّم به عن طيب خاطر؛ هذا على الرغم من تيقنها من حقيقة أن التغيير سيطالها، مهما راوغ وتفنن المتضرورن؛ وان وجودها بتوجهاتها الحالية، وطبيعتها الراهنة لم تعد منسجمة مع ماهية التفاعلات التي تشهدها المنطقة، هذه التفاعلات التي تتقاطع مع إرادة الشعوب الراغبة في الإنعتاق والتخلص من الأنظمة التي أنزلت بها المصائب الواحدة تلو الآخرى تحت يافطة من الشعارات الكبيرة، شعارات خاوية روجتها للإستهلاك المحلي، وذلك بهدف التزيين الإيهامي، والإجهاز على الداخل الوطني وانهاكه حتى الرمق الأخير.

والسلطة هذه هي في مواجهة عامة - كما أسلفنا - مع مختلف تيارات المجتمع السوري السياسية من قومية وليبرالية وعلمانية ودينية وغيرها، الأمر الذي يؤدي بها إلى المزيد من التقوقع على الذات، والإنفصال عن المجتمع، والتلويح بأشد الأساليب قسوة بغية إرهاب الناس، ودفعهم نحو اليأس والاحباط. إلا أن الذي يهمنا هنا هو واقع المعارضة نفسها، هذه المعارضة التي يبدو أنها قد حسمت أمرها من جهة الإفصاح عن الرغبة في التغيير وليس الإصلاح الذي يلوذ به المنخور القائم أداة للتضليل والتزييف، تُعتمد لإطالة العمر، ورفع سقف الصفقة مع الخارج الذي كان بإستمرار عرّاب الترويج والبقاء.

المعارضة السورية هي اليوم في تنامٍ واتساع متواصلين على مختلف المستويات، وفي كل الميادين. وهناك جملة عوامل موضوعية تمنحها دفعة حيوية تمكنها من الانطلاق والتحرك بقوة أكبر، وثقة أشد؛ وفي مقدمة هذه الأخيرة: الإستياء الشعبي من الفساد والمظالم، والظرف الإقليمي غير الموائم لوجود سلطة أمنية قمعية شمولية، تتحكم بها نزوات جملة من الأفراد اللامرئيين. هذا إلى جانب الاهتمام الدولي بمجريات قضايا المنطقة، خاصة بعد سقوط نظام صدام البائد في العراق؛ وما أعقب جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري من تداخلات واختلاطات؛ وتفاعلات الاستغلال الغبي لقضية الرسوم الدانماركية المدانة من قبل الجميع. إلا أن الأمر الذي يستوقف ويستوجب التمعن بغية التدارك والمعالجة، يتشخص في مظاهر ضعف العمل الوطني المعارض التي تفسر واقع الاخفاق، وتلقي الضوء على خلفية العثرات هنا وهناك؛ اخفاقات تجسّدها حالة التعثر والتشتت، مما يحول دون بلوغ مستوى الفعل التراكمي الذي لا استغناء عنه في أية عملية تحول كبرى من شأنها القطع مع عقود من التفرد والقمع والاحتكار بأوسع معانيه، والتمهيد لمرحلة من شأنها إتاحة المجال أمام الجميع للإسهام في عملية النهوض التي باتت المطلب الأكثر الحاحاً في ظل مناخ الثورة العلمية التقنية التي يشهدها عالمنا المعاصر. ومن بين أبرز مظاهر الضعف هذه التي تعرقل الفعل السوري المعارض نشير هنا إلى:

الإفتقار إلى المظلة التنظيمية القيادية

فقد كان من شأن وجود مثل هذه المظلة تنسيق الجهود وتوجيهها، واستيعاب المستجدات والتكيّف مع المتغيّرات. ولعل الترحيب الواسع الذي حظي به إعلان دمشق سواء في الداخل أو الخارج كان مرده هو الإحساس بهذا النقص، والشعور بضرورة تلافيه. ومن هنا نرى ضرورة اعتبار هذا الإعلان خطوة في الطريق الصحيح، أما التعامل معه بوصفه البداية والنهاية، الوسيلة والهدف، فهذا مؤداه شل الفعل المعارض واقحامه في صراعات هامشية تستفيد منها السلطة من دون شك. الإعلان وهيئته يحتاجان إلى المزيد من التطوير والتدقيق، وذلك للإرتقاء إلى مستوى التعامل مع تحديات المرحلة على صعيد المضمون والآليات. المطلوب الملح راهناً هو أن يتحول هذا الإعلان، وغيره من الواقف السياسية الصائبة، من مجرد توجه نظري عام إلى مرشد عمل - وذلك بعد التطوير - لهئية عامة مسؤولة، تأخذ على عاتقها قيادة الفعل المعارض من موقع استيعاب الجميع المستعد، والتعبير عن طموحات وآمال سائر السوريين بانتماءاتهم المختلفة، بعيداً عن عقد التشنج والأستذة، والتسرع؛ بعيداً عن عقلية الإقصاء أو الإستئثار والتشفي أو الإنتقام.

إن ما يحتاج السوريون إليه هذه الأيام أكثر من من أي وقت مضى هو ما يجمعهم ويوحدهم، ويحقق صيغة متقدمة من تراكم الخبرات والطاقات لإنجاز المشروع الوطني الديمقراطي التغييري الشامل، هذا المشروع الذي سيكون لصالح الوطن وأهله، وسيضع حداً لحقبة مظلمة آن لشعبنا أن يتحرر من تبعاتها الثقيلة. وأمر من هذا القبيل، يستدعي عقولاً نبيهة وقلوباً مفتوحة، قادرة على لملمة الطاقات، واطلاق المبادرات الخلاقة في إطار جماعي يحميها، ويزودها بمقوّمات النجاح؛ وإلا فستقتصر النتائج على إنجازات فردية لا تفتقر إلى الجرأة والإخلاص، لكنها لم ولن تؤدي إلى المنشود الوطني...

التردد والعجز عن استثمار الفرص لصالح المشروع الوطني

وما نعنيه بذلك هو أن قسماً كبيراً من القوى المعارضة لم يحدد موقعه بعد على مستوى القطع مع الآمال الهلامية الخادعة التي توهم بإمكانية اصلاح السلطة أوالتصالح معها. وهذا أمر يربك قوى التغيير نفسها؛ ويضعف ثقة ناسها بها؛ ويولّد قناعة لدى القوى الاقليمية والدولية مفادها عدم نضوج وجاهزية البديل الوطني. وكل هذه السلبيات تغدو بالنسبة إلى النظام بواعث مشجعة تمكنه من المناورة والتحرك في مختلف الاتجاهات، مما يساعده على الإرجاء الآني لتفجّر أزمته المسدودة الآفاق؛ وكل ذلك يدفع بالناس عندنا نحو المزيد من الحيرة والترقب. فهم من ناحية يرغبون في التحرر من نير السلطة الشمولية التي باتت تؤثر سلباً على أدق تفاصيل حياتهم؛ كما انهم يدركون بحسهم السليم أن المتغيرات المتلاحقة التي تشهدها الساحة الاقليمية لا بد أن تطال السلطة المفروضة عليهم بقوة السلاح، هذه السلطة التي لا تتحلى بأية صيغة من صيغ المشروعية بالمعنى الأوسع لهذه الأخيرة.

لكن السوريين من ناحية أخرى يواجهون معادلة عقيمة، طرفاها معارضة قوية بقضيتها، ضعيفة بتلكؤها وهشاشة آلياتها؛ وسلطة مكشوفة بفسادها وجشعها بأنانيتها وأفعالها التي تثير الف تساؤل وتساؤل، لكنها ما زالت تحتمي بورقة عرض الخدمات اقيمياً ودولياً، وتحاول بشتى السبل عقد الصفقات وانقاذ الرأس، من دون أن تتنازل للداخل الوطني سوى عن الفتات الذي يوظف للبهرجة والتهريج الاعلاميين، وبقصد التعمية والتشويش سواء في الداخل او الخارج.

غياب الوضوح المطمئن والجرأة السياسية الواعية.

وهذا ما يتشخص في واقع هيمنة المفاهيم ذاتها التي اعتمدها حزب البعث على مدى عقود من حكمه في سورية، تلك المفاهيم التي أساسها إقصاء الآخر المختلف، واجباره على التلوّن باللون البعثي المفروض؛ هذا مع أن الجميع على دراية تامة بأن الشعارات القومية الكبرى التي رفعها البعث استناداً إلى ايديولوجيته قد تحولت مع الوقت إلى مجرد هلوسات لدغدغة المشاعر، وإثارة الحماس الوقتي غير المجدي، وذلك في سياق عملية التحكّم والتفرّد التي مارستها - وما زالت تمارسها - مجموعة النواة الحاكمة التي تتعامل مع الجميع من خلال ما ينسجم مع مصالحها. أما من يخرج عن الدور المرسوم فمصيره النبذ والتخوين، إن تمكّن من تجاوز حدود دائرة التصفية والاعتقال.

ما يُؤخذ على المعارضة السورية هو عدم تمكنها بعد من تقديم مشروع وطني متكامل. مشروع يطمئن الناس على اختلاف خصوصياتهم وتوجهاتهم، مشروع يمتلك المصداقية، وينأى بذاته عن اسلوب الترقيع وترطيب الخواطر، فضلاً عن المجاملة الخاوية. مشروع يقوم على محدداته الوطنية التي تجسد طموحات الجميع، من دون التعامل التمييزي الذي اثبت بإستمرار عقمه، بل كان له على الدوام دوره السلبي في تراكم المشكلات وتفاقمها. والمثال الأوضح الذي يفرض ذاته في هذا المجال هو الموقف الضبابي من المسألة الكردية التي تخضع لعملية تقزيم باعثها الجهل في بعض الحيان، ودراية وقصد في معظمها، وفي الحالتين تنحصر هذه المسألة في مشكلة الإحصاء أو حقوق المواطنة غير المحدودة أصلاً؛ هذا في حين أنها في واقع الحال قضية شعب صاحب أرض، يعاني من اضطهاد مزدوج يتمثل في الحرمان من أبسط الحقوق القومية والديمقراطية، والتعرض لمختلف المشاريع العنصرية التي تستهدف وجوده أرضاً وشعباً وثقافة. هذا في الوقت الذي يعلم فيه الجميع أن الوجود الكردي ضمن الكيان السياسي القائم راهناً تحت اسم سورية هو وجود تاريخي قديم، يعرفه بعمق كل ملم بأبسط قواعد تاريخ وجغرافية المنطقة. لكن الإصرار على التجاهل، والإتكاء على مزاعم متهافتة كسيحة، لا يركن إليها أي عقل يحترم مقومات التفكير السليم، إن مثل هذا الإصرار ينذر بالنوايا غير المشجعة التي يستشف منها اننا لم نصل بعد إلى مشارف المشروع الوطني المتكامل الذي لايمكن إرساء اسسه، وبناء صرحه من دون امتلاك الرؤية الوطنية الشاملة، المتحلية بالجراة السياسية التي تمكنها من مواجهة أوهام الذات والمسرح معاً.

فالكرد كانوا وما زالوا جزءاً صميمياً فاعلاً من الحياة السياسية في سورية، خاصة في جانبها المعارض. والوجود الكردي اللافت في المدن السورية الكبرى، دمشق وحلب على وجه التخصيص، إلى جانب المناطق الكردية، أدى بإستمرار الدور الناهض في الفعل المعارض، المطالب بالتغيير الوطني الديمقراطي على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات.

ومن هنا كان التعامل الفوقي مع العامل الكردي، والتجاهل القصدي لدوره المؤثر بمثابة مؤشر سلبي يوحي بعدم جدية دعاة التغيير؛ إن لم نقل عدم أهليتهم لتحمل أعباء مسؤولية المشروع الوطني العام الذي من المفروض أن يكون الحاضنة الكبرى والملاذ الآمن لجميع السوريين.

إن المرحلة التي تواجهها سورية حاسمة وفق كل المقاييس كما أسلفنا جميعاً مراراً وتكراراً. فالسلطة السياسية القائمة تعاني من أزمة شمولية مسلوبة الأمل. مع أنها بين الحين والأخر تحاول عبر الوسطاء الاقليميين أن تتمالك، وتخفف من وطأة الترنحات العنيفة التي ألمت بها، وهي تستميت في عرض الخدمات على الجميع بقصد البقاء، مستغلة بذلك وضعية تراخي الفعل المعارض، وانخفاض نبرة صوته المطالب بالتغيير.

المرحلة الاستثنائية الحاسمة تلزم القوى التي تبنت المسؤولية الوطنية الشريفة بضرورة بذل جهود استثنائية في مختلف الاتجاهات داخلياً واقليمياً ودولياً، وذلك من أجل طمأنة الشعب السوري العزيز، وتمكينه من تحقيق تطلعه المشروع نحو العيش بحرية وكرامة.