عندما يتفرق جمع المحتشدين لإحياء الذكرى الاولى لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، يكون قد انتهى الجزء الاكبر من الدفع الذاتي للمقولات الرئيسية <<للنيو حريرية>>: محاولة إقامة تحالف واسع بين قوى تأتي من خلفيات متباينة وتتفق في ما بينها على مشروع يحتاج الى الكثير من البلورة، السعي الى استكمال عملية تغيير في الدولة تطال رأسها وتؤسس لسلطة جديدة قوامها قوى الرابع عشر من آذار.

نقطة اللقاء بين هذه المقولات وبؤرتها هي المطالبة بكشف حقيقة اغتيال الحريري. ومن غير السليم اليوم، الزعم ان الموت المأساوي لرفيق الحريري قد توقف عن تشكيل عنوان محوري في الاجتماع السياسي اللبناني. غير ان بوناً شاسعاً يفصل بين وجاهة التمسك بكشف الحقيقة كمطلب مشروع وضروري لانتظام الحياة العامة في لبنان وفي علاقاته بسوريا، وبين تحويل هذا المطلب المُحق، مرة ثانية الى أداة لتنفيذ سياسات لا صلة بالنسخة الاصلية من <<الحريرية>>. وليس انتقاصا من قدر أحد القول ان التحمل الذي أبداه الرئيس الحريري للضغوط المتنوعة التي مارسها عليه الحكم في سوريا، ينبئ برؤية مختلفة جذرياً لواقع البلدين عن تلك التي يبشر بها بعض أركان تياره.
بكلمات اخرى: ان إحلال الانتقام والثأر وعصبية <<الدم المسفوك في الشارع>> مكان السياسة بتعريفها كإدارة للمصالح، لا يلغي السياسة فحسب، بل يعرّض البحث عن العدالة الى مجازفات ومغامرات كتلك التي عرفها التحقيق، على أيدي محمد زهير الصديق وهسام هسام وأشباههما. ولعلنا لا نتجاوز حساسية ما اذا قلنا ان إيكال متابعة التحقيق الى صحافيين من الدرجة الثالثة والى الانتهازيين بأنواعهم، انعكس سلبا على مطلب اللبنانيين بكشف الحقيقة. ومن المفارقات ان قيم البداوة والريف قد تسللت الى عملية التحقيق في اغتيال رجل وضع <<المدينة>> في مقدمة اهتماماته.

وابتداء من مساء اليوم، يتعين على <<تيار المستقبل>> وكتلته النيابية ووسائل إعلامه أن تأخذ في الاعتبار جملة الحقائق التي كشفها العام الماضي والدروس التي يمكن استخلاصها منه: أولها ان الطائفة السنية تعيش بعد رحيل الحريري، أزمة قيادة. فالبحث عن <<الحقيقة>>، على أهميته، لا يكفي موضوعيا لتشكيل مشروع زعامة لطائفة كبرى في لبنان. عليه، تبرز الحاجة الى إعادة النظر في مسألتين هما حجم تأثر عملية <<صناعة القرار>> في الزعامة الحريرية بما يردها من آراء من خارج الطائفة، وثانيا المكونات الاقتصادية والاجتماعية لمشروع الحريري بصيغته السابقة بمعنى الانصراف الى ترميم الادوات التي لا غنى عنها في المشروع والتي باتت موضع تساؤل جدي من جمهور الطائفة (المؤسسات التربوية والاجتماعية الخ...)، هذا من ناحية، وإعادة قراءة نتائج المسار الذي وصل اليه مشروع إعادة الاعمار بجوانبه المرتبطة بالاقتصاد الكلي شديد التأزم، من ناحية ثانية.

يأتي بعد ذلك مأزق العلاقة مع سوريا. هناك لبنانيون يعتبرون، محقين أو مخطئين، انهم في حالة تحالف مع نظام بشار الاسد، لأسباب تبدأ من اعتبارات الحفاظ على الهوية الطائفية ولا تنتهي في <<المحور>> المناهض للولايات المتحدة واسرائيل. يضيف هذا الخيار عامل انقسام جديدا الى الانقسامات اللبنانية حول سلاح المقاومة ومواقع الطوائف في السلطة ومستقبل رئيس الجمهورية. غير ان مجرد وجود تحالف بين لبنانيين والحكم السوري المتهم باغتيال الحريري، يرفع من حدة الاحتقان الداخلي ويضع البلد أمام واحد من خيارين: إما التوجه نحو حرب أهلية عنوانها كسر التحالف مع سوريا (من دون ان يكون لها أي مضمون تغييري على غرار المراحل الاولى من الحرب الاهلية السابقة)، أو العمل على إنضاج قواسم مشتركة مع هؤلاء اللبنانيين تقوم على تحييد تحالفهم المذكور ومنع تأثيره على الضرورات اللبنانية الداخلية ومنها كشف حقيقة الاغتيال.
بعد عام على الجريمة المروعة، تظهر <<حقيقة>> من نوع آخر. حقيقة ان رفيق الحريري كان هو <<مشروعه>> مجسدا، وان رحيله يسلط في كل يوم ضوءا على نواح غير مقروءة جيدا من الخسائر والمخاطر.