ضيا اسكندر

بعد فراغي من قراءة كتاب في علم النفس يبحث في قضايا الأبناء وأفضل السبل لمعالجة مشاكلهم... اتجهتُ إلى غرفة ابنتي وفتحتُ بابها ودخلتُ, وجدتها مستلقية على السرير حاضنةً وسادتها وهي مغمضة العينين وملامح السعادة تخيّم على وجهها. ولدى سماعها صرير الباب, فتحتْ عينيها مبتسمة, ثم سرعان ما تداركتْ وأبعدت الوسادة وجلست عاقدة الحاجبين عابسةًً.

أدهشني تحوّل سحنتها المفاجئ! بادرتها مستوضحاً عن أحوالها وسرّ عبوسها... فأجابتني بعد تنهيدة عميقة بأنها زعلانة كثيراً من خطيبها لأنه غافلها وخطف منها قبلة بمناسبة عيد الحب!
قلت في نفسي (هون حطّنا الجمّال) يجب أن أكون حضارياً في التعامل مع ابنتي وأطبّق ما قرأته في الكتاب, لا سيما وأن هذا الموقف يعدّ امتحاناً جدّياً لي!

اقتربتُ منها متظاهراً بدور المواسي, متخذاً صفة الأب الذي لا تربطه بالمجتمع الشرقي أية رابطة, مقاوماً كل ما صبّته شلاّلات التربية المحافظة على سنين عمري من قيم وخصال تدعو إلى نقيض ما قرأته في ذلك الكتاب. وأجبتها بعد أن حمْحمْتُ: لكنه خطيبك يا ابنتي ومن الطبيعي في هذه المناسبة أن يتبادل معك الكلمات اللطيفة والهدايا الرمزية وأشياء أخرى... ثم إنه بصراحة لا يبدو عليك الزعل إطلاقاً ؟!! بل أستطيع القول إنني أراكِ في غاية السعادة!؟
فأجابتني كمن تريد دفع التهمة عنها: بابا! إن هذه القبلة لا يمكن أن تكون يتيمة من الآن فصاعداً, وأخشى ما أخشاه أن يكرر فعلته ويغافلني مرة أخرى!

قلت لها وقد بلغتُ حدّاً من تحمّل النفاق يصعب على ابن باريس من ألف جدّ وجدّة تحمّله: قومي صفي لي كيف تمّت هذه القبلة اللعينة لأتأكد من نوايا خطيبك هذا, هيّا!

نهضتْ عن سريرها واتجهت صوب طاولتها وأمسكت مجموعة من الكتب وجلست على حافة السرير مطأطئة. وبعد أن وضعت كتبها في حضنها بدأت تمثل الحادثة وبصوتٍ أقرب إلى البكاء:

- والله العظيم يا بابا! كنت أجلس هكذا إلى جانب خطيبي على المقعد في الحديقة, تطلّعتً إليه بحياء, ألفيته ينظر إليّ بحبّ, وما كان منه إلا أن سحب يده من خلف ظهره وقدّم لي هدية, ثم التفت إلى جميع الجهات مستطلعاً, وعندما أيقن من خلو المكان ضمّني إلى صدره و.. إهئ.. إهئ.. طبعاً بابا لم أستسلم, وذكّرته بأننا مازلنا خطيبان, ويجب عليه ألاّ ينسى ذلك أبداً...! إلا أنه كان أشطر, أقصد أسرع من أن يسمح لي بتكملة حديثي وحصل ما حصل..! إهئ.. إهئ..

وبدأت تتظاهر بالبكاء..

بلعْتُ ريقي وقد استبدّت بي مشاعر مختلطة من كظم الغيظ والتوتر ومحاولات إطفاء البراكين التي تغلي في داخلي, تمكّنتُ خلالها وبقدرات خرافية الاستمرار في تطبيق ما ورد في ذلك الكتاب من وصايا وتعاليم وقلت لها:

- لا مانع لديّ من أن تعيشي حياتك كما تحلو لك.. هذا من حقك تماماً, ولكن عليكِ يا ابنتي التحلّي بالأخلاق الشرقية ومراعاة عاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا... فمن غير المستحب ممارسة الحب, أقصد القبل, في الحديقة العامة وعلى مرأى من الناس, لسنا في أوروبا يا حبيبتي!

أجابت على الحارك وهي تمسح دموعها:

- والله يا بابا لم يرنا أحدٌ,... صدّقني!

أسبلتُ جفنيّ وشفطتُ نفساً عميقاً من منخريّ محاولاً إخفاء العروق الحمراء التي نبقتْ في عينيّ وأجبْتُ:

- ما اختلفنا يا بابا! ولكن من المعلوم أن المرء يكون مغمض العينين أثناء أدائه للقبل, وقد يمرّ أحدٌ ما بهذه اللحظة ويجدكما وأنتما على هذه الحالة...! يرضى عليكِ يا ابنتي لا نريد شوشرة! ثم إنه ومن خلال تجربتي وخبرتي, أرى أن الفتاة يجب أن تكون شحيحةً في عطائها لحبيبها لكي يبقى مشدوداً إليها, متمسكاً بها, متلهفاً للقائها...

أجابت باستنكار:

- أرجوك بابا! تحدثني وكأنني أكاد أطير من الفرح لتصرّف خطيبي ذاك؟!!

نظرْتُ إلى الأعلى باتجاه السقف متمالكاً مدارياً جحافل الغضب التي بدأت تفور متصاعدة في كافة أنحاء جسدي, واكتفيتُ بأن ضربْتُ قبضة يدي اليمنى براحة كفي اليسرى وأجبتُ من بين أسناني:

- يا بابا يا حبيبتي أرجوكِ افهمي ما سأقوله لكِ...

(وهنا وبصعوبة بالغة استحضرْتُ أهمّ ما اكتنزته في حياتي من معلومات تؤيد موقفي, وأطعمتها محاضرة مرتبة عن الأخلاق التي حضّتْ عليها كل الأديان والشرائع, وضرورة التمسك بها.. وأنهيتها بسؤالي: مفهوم بابا؟)

أجابت بصوتٍ متكلّفٍ ناعسٍ:

- مفهوم بابا..

مسّدتُ شعرها مداعباً وخرجْتُ.

وما إن غادرْتُ غرفتها حتى سارعتْ وقامت برمي كتبها باتجاه الطاولة. وقفزتْ عائدةً إلى السرير لتحضن وسادتها من جديد, وأغمضت عينيها حالمة, وقد أشرق طيف ابتسامة على وجهها وغرقت بالسعادة.