بعد انتظار طويل ووعود لم تنقطع بأخذ مطالب الرأي العام السوري في الحسبان، وتشكيل وزارة سورية قادرة على وقف التدهور الخطير في شروط معيشة السكان الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم البطالة والفقر والفساد••• وبعد تلميحات لم تتوقف إلى اقتناع القيادة السورية بضرورة الانفتاح على المجتمع وتعزيز الوحدة الوطنية وتوسيع دائرة المشاركة في الحياة العمومية لمواجهة التهديدات الأجنبية، وبعد التصريحات العديدة التي أكدت على أن حركة الإصلاح المتعثرة منذ وقت طويل ستبدأ قريبا بوتيرة استثنائية بعد أن تخلص النظام من الحرس القديم بخروج آخر زعمائه (نائب رئيس الجمهورية السابق عبدالحليم خدام)••• جاء التعديل الوزاري الجديد ليحبط جميع الآمال• ولعل المفاجأة الوحيدة التي أتى بها هذا التعديل هي التأكيد على أنه لا ينبغي أن نتوقع من النظام السوري مفاجآت وأنه، مهما حصل وبصرف النظر عن أي شعار، لا يمكن إلا أن يظل منسجما مع نفسه ومخلصا لمبادئه في التثبت بالمواقع ورفض التحرك إلى الأمام، سواء أكان ذلك تحت الضغط أم من دونه• فلم يأت التعديل الأخير للتأكيد على رفض التغيير فحسب وإنما أيضا على أنه ليس أمام النظام حتى خيارات جديدة في ما يتعلق بانتقاء الأشخاص، وأن كل ما يستطيع أن يقوم به هو إعادة الرهان على الشخصيات نفسها التي ارتبطت أسماؤها طويلا بحالة التخبط والتراجع والجمود، لكن بنقلها من منصب إلى آخر، وسد الثغرات المتزايدة بأسماء لا يعرف عنها السوريون أي موقف، لا فكري ولا سياسي، حتى في إطار النقاش داخل الحزب القائم، ولا تمثل بالتالي أي رأي أو خيار سياسي•

قد يبدو تعيين فاروق الشرع، الذي أمسك بالدبلوماسية السورية خلال عشرين عاما مضت، نائبا لرئيس الجمهورية، رسالة تشدد تجاه تلك القوى المتعددة، الداخلية والخارجية، التي أظهرت أكثر من مرة نفاد صبرها من مواقف الشرع وتصريحاته المحبطة التي ساهمت في دفع البلاد نحو الوضع الكارثي الذي تجد نفسها فيه اليوم• وقد يبدو تعيين وليد المعلم، الذي اشتهر بأدبه الدبلوماسي الجم بالمقارنة مع سلفه المثير للجدل، وزيرا للخارجية تعبيرا عن الرغبة في تبني مواقف أكثر مرونة تجاه القضايا الشائكة التي تواجهها البلاد• بيد أن واقع ممارسة السياسة في سوريا، بما في ذلك السياسة الخارجية، تلغي عن هذا التعيين أي مغزى حقيقي• فليس للشرع ولا للمعلم ولا لأي وزير، في وزارة العطري القائمة والوزارات التي سبقتها، أية سلطة حقيقية وأية أهلية للتعامل مع القضايا المطروحة باستقلالية• وهم يشكلون، مثلهم مثل جميع محتلي المناصب العليا في الدولة، أدوات في يد سلطة مغلقة تمسك بها مجموعة من الأفراد لا تكاد تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، هي التي تخطط وترتب وتوجه وتقود وتضع لهؤلاء وأولئك جداول الأعمال وتلزمهم باتباعها من وراء كواليس الرئاسة وأذرعها المتمثلة بأجهزة الأمن المتعددة• ولهذا السبب جرت العادة ألا يركز المراقبون في تحليلهم للتعديلات أو التشكيلات الوزارية السورية على الخيارات السياسية المضمرة التي يحتمل أن تشف عنها بقدر تركيزهم على نسبة كل واحد من المعينين في المناصب الوزارية إلى أفراد هذه السلطة، وبالتالي تحديد نصيب هؤلاء من تقاسم النفوذ فيها• لكن ما وصلت إليه دائرة ممارسة السلطة الحقيقية من ضيق قد جعل مثل هذه المحاولة لتمييز من هو لمن، ومن المسؤول عن تعيينه غير ذات معنى على الإطلاق• فحتى على هذا المستوى لم يعد هناك مجال لأي تعليق•

ليس لما أظهره ويظهره النظام من انعدام القدرة على التغيير وما ينجم عنه من تخييب لآمال السوريين الذين ملوا الانتظار، تفسير آخر سوى انعدام الخيارات عند الفريق الممسك بالسلطة في دمشق، وإدراك أعضائه بأنه ليست لديهم آفاق ولا نوافذ فرص يمكنهم استغلالها أو الاستفادة منها لرسم توجهات جديدة في هذا الاتجاه أو ذاك، وأن أفضل وسيلة للحفاظ على الوضع القائم وعدم الدخول في مغامرات مكلفة أخرى هي المراوحة في المكان مع الاحتفاظ بما يوحي بالإبقاء على إمكانية التحرك في الاتجاه ونقيضه في كل الأوقات• وفي هذا الإطار يكمل الشرع والمعلم بعضهما بعضاً أكثر مما يعبران عن اختلاف التوجهات•

لا يختلف عهد الدكتور بشار الأسد كثيرا في الواقع عن عهد والده في اعتماد القاعدة الذهبية التي حكمت النظام منذ تأسيسه في بداية السبعينيات، وهي الجمود والثبات على المواقع المكتسبة، والعمل بجميع الوسائل للحفاظ عليها، على المستوى الاستراتيجي، وفي الوقت نفسه المرونة والانفتاح وتأكيد الاستعداد للحوار مع جميع الأطراف، المحلية والإقليمية والدولية على المستوى التكتيكي• وهذا الجمود هو نفسه الذي سيصبح في لغة الإيديولوجيا ’’الصمود والتصدي’’ خلال الثمانينيات والتسعينيات، و’’المواجهة والمقاومة’’ خلال السنـوات الخمس الأخيـرة، ثم ’’سوريا الله حاميها’’ فـي السنة الأخيرة، تجاه قوى الضغـط الداخليـة والخارجيـــة على حد سواء•
ولا يزال هذا الوضع دون تغيير، بل إن التباين بين قوة المواقع التي لا يزال يحتلها التآلف القائم وقدرته على الدفاع عنها بوسائله الذاتية قد تفاقم إلى حد أصبح يهدد استقرار النظام واستمراره على المدى القصير• ولذلك، كما كان من غير الممكن الحفاظ على هذه المواقع القوية من دون خلق الشروط الضرورية للإبقاء على تفتت القوى الاجتماعية والإقليمية والدولية الرئيسية بتقسيمها أو الاصطياد في ماء نزاعاتها، لا يزال من غير الممكن، اليوم أكثر من البارحة، الثبات عليها والمحاصرة فيها من دون تخليد القوانين والعلاقات ووسائل العمل الاستثنائية والعنيفة أيضا، أي من دون تخليد الحصارات الشعبية وزيادة التدخلات الأجنبية والتهديــد بالحروب الإقليميــة والدوليـــة واللعب بنيرانهـا•

فــلا يعنـي الانفتـاح علــى الشعـب وقـوى المعارضة الديمقراطية، بما يستدعيه مــن تراجـع عـن الاحتكــار المطـــلق للسلطــة، والذي يتجاوز بكثير أية صيغة ديكتاتورية عادية لـيصل إلــى مستـوى الاعتباطية الشاملـــة وإلغـاء السياسة والمجتمع والقانــــون، لصالح الكتلة الحاكمة وأنصارها، من دون تهديــد استقرار النظام نفسه وفتح آفاق تغييـــره• لكن منطق البراغماتيـــة الذي ميز الحقبة السابقــــة من عمر النظـام وسمـــح له بالتقدم على جثث الآخرين والإفــادة مـن مآسيهــــم، يهــــدد اليـوم بأن يتحـول إلى انتهازية ضيقة الأفــق وسيئـــة العواقب بالنسبــــة لبلد صغيــــر لا يملـك وسائل بنـاء استراتيجيته الإقليمية الخاصة، وفي ظروف فقدان النظام صدقيته وحصول التفاهم بين جميع الأطراف المتضـــررة منه على وضـع حد لاستثنائيته•