إن حبات المطر المجتمعة، هي التي صنعت المحيط العظيم، قول مأثور.

وفي مبادئ علم السياسية، والتي من أحد تعريفاتها فن الممكن، لا يوجد عداوات دائمة، كما لا توجد صداقات دائمة، ولكن هناك دائما مصالح دائمة. إنها المنطلق الأساسي لكل من أخذ على عاتقه خوض غمار هذا المعترك الخطير. هذه المقولة جسدها اليوم، وعلى أكمل وجه، اللقاء الثنائي الذي جري بين السيد عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السوري السابق، والسيد علي صدر الدين البيانوني، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين السورية المحظورة بموجب القانون (49) الشهير لعام 1980. السيد خدام الذي كان حتى وقت قريب واحدا من وجوه النظام السوري البارزة، يحاول أن يصبح اليوم، أيضا، أحد وجوه المعارضة الأساسيين، تلك المعارضة التي تنمو يوميا وتتبنى أساليب عمل جديدة للوصول إلى قلب الشارع السوري، الذي ظل بعيدا ومهشما عن الدخول في صلب العملية السياسية، عبر تشكيل أعرض جبهة ممكن لها أن تحدث ذاك التأثير الذي يؤدي إلى تغيير نوعي.

ولو أن أمر تحول السيد خدام قد حصل في دولة تمارس الديمقراطية ولعبة الانتخابات، لكان انتقال السياسي من الحكومة للمعارضة أمرا مألوفا وشائعا، ولا يكتسب تلك الإثارة والدلالات العميقة، ولكن أن يحدث هذا في نظام شمولي قائم برمته على الحصار والقبضة الأمنية، فإن الموضوع بحاجة للكثير من الوقوف والتأمل، وأن تداعيا كبيرا قد أصاب صلب وبنية هذا النظام الذي صار يبحث عن أية عوامل ممكنة للبقاء وسط محيط شامل ينذر بكل أسباب التغيير .

وبلمحة سريعة، فلقد عجّلت، وأثمرت، المصلحة المشتركة للجانبين المتمثلة في "التخلص" وبأية وسيلة، وعبر أي حلف، من النظام السوري، في عقد هذا اللقاء مع الاعتبار الكبير لرمزيته "اللونية" المفرطة ومهما حاول البعض القفز فوقها، وها هو "القومي العربي البعثي الاشتراكي" ذو التاريخ الطويل، يتحالف مع الأصولي، الديني، والسلفي. وحدها المصلحة السياسية المشتركة للجانبين، وحسابات إعلان المواقف التي توضع في الرصيد المستقبلي، هي التي تقف وراء عقد مثل هكذا اجتماعات، وفي هذا الوقت بالذات. والسؤال الذي يفرض نفسه، ما الذي يمنع في مرحلة متقدمة لاحقة، لمعارضة تتنامى كل يوم، ويصم النظام آذانه عنها، أن تجتمع فيها جميع الأضداد المتباينة لهدف واحد ووحيد يجسد مصالح هذا "الجميع"؟ مع الإدراك التام للمآزق الكبيرة، والمتعددة، التي تعتري عمل المعارضة حاليا، وتضعف من تأثيرها إلى حد كبير.

وأهمية اللقاء الأولى، بالنسبة للجانبين، تكمن بالاعتراف المتبادل "الرمزي"، والعفو عن، ونسيان الماضي الأليم، وإشهار هذا التحالف علنيا "هذه المرة" بين الطرفين اللدودين "أعداء الأمس"، وحلفاء اليوم، وهو ما كان شبه مستحيل حتى وقت قريب، كونه من غير الممكن التكهن بزمن، ومدى، وعمق الاتصالات التي حصلت بين أعضاء التحالف الجديد، وإن كان هناك بعض التسريبات عنها سابقا. والأمر الثاني هو، ولا شك، في توحد نظرتهما، حيال الأمور التي كانت موضع نقاش، وهي، بالطبع، موقفهما، ونظرتهما من النظام السوري وتمخضت عن اللقاء الذي بدا ناجحا، حسب صياغة "أخبار الشرق" التي وزعته كخبر عاجل، و"سبق صحفي". كما لم ينس الجانبان إرسال إشارات التحية، و" الغزل" ومد اليدين، لأطراف "إعلان دمشق" التي لم يعرف حتى اللحظة موقفها من اللقاء، ولكن معرفة ما لجماعة الإخوان المسلمين، من دور في صياغة بنود الإعلان المذكور، قد يعطي فكرة عما سيكون عليه موقف القوى الفاعلة في التوقيع. وإن كان، ولا بد، سيحدث بعض الاضطراب في مشهد المعارضة السورية الراكد، وقد يؤدي لاصطفا فات، وانسحابات جديدة. ويبقى السؤال الأهم هل هو محاولة من قبل فصيل فاعل لـ"تطبيع" خدام وتمهيدا لقبول المزيد من القادمين، ورسالة جدية وأخيرة على ما سيكون عليه المشهد السوري الجديد، وما هو الثمن والتنازلات التي دفعت، كاعتذار متبادل، مثلا من الجانبين؟

فما الذي يمنع قيام تحالفات جديدة، ومفاجئة، أيضا، في ظل عملية الاستقطابات الحاصلة، والضغوط التي تتراكم يوميا على النظام، والمنتظر أن تدفع إلى المزيد من حصاره وإضعافه، وفي هذه الحالة قد تدفع الحسابات السياسية المبنية على المصالح بالكثيرين لإعادة بناء مواقفهم على واقع جديد بدأت تلوح ملامحه من بعيد، وتبني مواقف جديدة قد يكون فيها المزيد من المفاجآت، أكثر بكثير مما هو حاصل اليوم، حيث أن الجميع يلعب ألعابا سياسية، ما خلا النظام، الذي ما زال، وحيدا، يلعب ألعابه الأمنية، ولا يبدو أنه، بأية حال، يتقن غيرها.

إنه لمن المعلوم تماما إن مدى فاعلية وتأثير هكذا لقاءات تتحدد تماما في ظل المناخ السياسي الدولي فقط ، وحتى تصبح قوة ضغط حقيقية تفضي إلى تغيير ما، فإنها تحتاج إلى تبنيها ودعمها من قوى دولية مؤثرة، ولا تتوفر حتى اللحظة أية معطيات، أو معلومات على هذا الجانب، إلا أن اللحظة السياسية الراهنة، بكل تفاصيلها، وتشعباتها الإقليمية، والدولية، تكسبها طابعا، وأهمية كبيرين.

هاهي كرة الثلج التي تتدحرج في منحدر وعر وخطير، وطريق فيه الكثير من الصعوبات والمطبات والعراقيل. والسؤال الجوهري ما هي الردود العملية والبناءة التي سيتخذها النظام، وقد أصبح هامش المناورة والتحرك ضيقا عليه، وعلى أكثر من صعيد، حيال معارضة تتنامى كل يوم وتضم المزيد، والتي سيكون من غير الحكمة، أبدا، التقليل من أهميتها أو تجاهلها، أو العودة لأساليب التفكير القديم من التعكز على الحل الأمني واعتباره الحل الوحيد، والركون لنجاعته التي أصبحت موضع شك كبير، إذ لا حل ممكن وسريع، سوى بتحقيق انفراج سياسي واسع، حقيقي، وعريض, وهو، وحده، الكفيل بإفراغ هكذا مبادرات من أي تأثير.

إنها الأسئلة الأصعب، والخيارات المرة في الوقت الحرج، والقصير.