اتخذت قضية الإساءة الدنماركية للرسول الكريم ـ عليه أفضل الصلوات والتسليم ـ أبعادًا كثيرة وتطورات مختلفة منذ وصول خبرها إلى دول العالم الإسلامي. ومع أن الخبر قد وصل متأخرًا إلا أن موجة الغضب التي أثارها كانت شديدة وعاتية، وكأن تلك الصور نُشرت لتوّها في الصحيفة. وقد كشفت هذه القضية، رغم قسوتها ومرارتها عدداً من الأمور من خلال الأحداث التي جرت على هامشها، قد يكون من المناسب تتبعها والتوقف عندها ومحاولة الخروج من هذه الأزمة بفائدة. ومن هذه الأمور يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

كشفت هذه القضية انعزالنا عن العالم من حولنا، وأننا ـ رغم توفر وسائل الاتصالات والتواصل بكافة أنواعها ـ لا نزال معزولين عن بقية العالم، فلا نحاط علمًا بما يجري في أي بقعة منه إلا بعد مرور شهور عدة. فإذا كان من الطبيعي أن نغضب لرسولنا، وأن نثور على أي محاولة للإساءة إليه وتشويه صورته، فإن من غير الطبيعي أن تأتي ردود الفعل العربية والإسلامية على الإساءة الدانماركية للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ثلاثة شهور تقريبًا من حدوثها.

كما كشفت هذه القضية عن تقصيرنا تجاه ديننا. فإذا كان من الجلي للعيان أن القائمين على صحيفة (يلاندس بوستن) لم يضعوا مشاعرنا نصب أعينهم حين نشروا تلك الصور، أي أنهم لا يبالون بنا، وربما يتعمدون الإساءة لنا، فإن الأهم من هذا هو أن هذه القضية أظهرت تقصيرنا في التعريف بديننا، بالسلوك الشخصي أولا، وبالدعوة إليه بالحسنى ثانيًا، لذلك فنحن نتحمّل قدرًا من مسؤولية الإساءة إلى رسولنا الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه.

كشفت هذه القضية أيضًا عن عدم ضبطنا لردود أفعالنا؛ فمن الطبيعي أن تقوم مظاهرة سلمية تندد بهذا الأمر، أو أن تُكتب المقالات الرافضة والمستنكرة له، وأن تُعلن المقاطعة الاقتصادية، ولكن أن يصل الأمر إلى حدود العنف والحرق والتدمير ـ كما حدث في بعض العواصم العربية ـ فهذا غير مقبول، ولا يعكس بأي شكل من الأشكال ديننا، وكأن من قام بأعمال العنف هذه لا يعيش معنا في العالم نفسه، ولا يدرك أنه بفعلته هذه يرسخ الصورة التي يحاول الإعلام الغربي الموجّه إظهار الإسلام بها.

أثبت الغرب ـ من خلال هذه القضية ـ تزعزعهم وعدم ثبات مفاهيهم، وعدم تمثلهم لمقولاتهم النظرية؛ فهم يخلطون بين حرية التعبير والمساس بعقائد الآخرين، مع أن المساس بحرمة المعتقدات أمر لا يمكن التهاون فيه، وحرية التعبير وحرية الصحافة يجب ألا تتسبب في جرح مشاعر الآخرين بتشويه مقدساتهم وإهانتها.

كما أثبت الغرب ازدواجية معاييرهم؛ ففي حين تطاولت حرية الصحافة عندهم إلى درجة الإساءة إلى رمز ديني مقدس عند مليار شخص مسلم موجودين في العالم، نجدها تتقاصر حدّ التقزّم عندما يتعلق الأمر باليهود أو بالمسيحيين؛ فهذه الصحيفة نفسها رفضت قبل ثلاث سنوات نشر صور كاريكاتورية عن المسيح عليه السلام لأنها رأت أن ذلك قد يجرح مشاعر عدد كبير من المسيحيين!

كما كشفت هذه القضية عن تكاتف الغرب على باطلهم؛ فبمجرد أن بدأت ردود الفعل الإسلامية في التصاعد منددة بتلك الرسومات انتقلت الحمى بشكل هستيري من دولة أوروبية إلى أخرى، ثم إلى خارج القارة الأوروبية، رغم ما رأته تلك الدول من الخسائر الفادحة التي يتعرض لها الاقتصاد الدنماركي، ومع هذا وضعوا اقتصاد بلدهم في كفة، وحرية التعبير والصحافة في كفة أخرى يبدو أنها الراجحة، ولم تملك حكوماتهم اتخاذ أي إجراء حيالهم، ولكنها استطاعت ـ في الوقت نفسه ـ اعتلاء المنابر المختلفة للتنديد بمظاهر العنف والرعب التي يشيعها المتظاهرون المسلمون، وكأن العنف المادي عندهم أشد وأكثر شراسة من العنف المعنوي الذي يطال المقدسات.

كما كشفت عن تكاتف العالم الإسلامي في موقفه مما يمسّ رمزًا دينيًا مقدسًا عنده، رغم وجود بعض الأصوات المغردة خارج السرب، والتي ترى في المقاطعة ـ على سبيل المثال ـ حلاً غير حضاري لأننا نعاقب بها دولة وشعبًا بجريرة أفراد معدودين.

وبعيدًا عن هذه الأصوات صُدمت الشعوب العربية بقيام بعض الصحف (العربية والإسلامية) بإعادة نشر تلك الصور، في تحدّ مهين لمشاعر المسلمين، وتحت شعار حرية التعبير والصحافة أيضًا، الذي يخبئ خلف ستارته المهترئة أبعادًا مادية تسعى من خلالها تلك الصحف إلى تحقيق أكبر نسبة مبيعات حتى لو كان ذلك على حساب رسولنا الكريم -عليه أفضل الصلوات والتسليم.

هذه بعض الملاحظات التي يمكن التقاطها من هذه القضية الحساسة ذات الإيقاع السريع والمتصاعد، ويوجد غيرها الكثير مما يمكن التوقف عنده، ومناقشته ولكن المجال لا يتسع لذكر كل شيء، والأهم من ذلك هو معرفة ما الذي يتوجب علينا فعله؟ وكيف يمكن أن نخدم ديننا ونبينا دون رد الإساءة بمثلها، دون اللجوء إلى العنف المادي.

في رأيي إن الحل السلمي الأمثل هو الالتزام بالمقاطعة التي فرضتها جماهير الشعوب العربية بنفسها على البضائع الدنماركية، وأن نتعامل مع الاعتذار الصوري صوريًا أيضًا، دون أن يعني هذا إعادة العلاقات مع تلك الدولة كما كانت سابقًا وكأن شيئًا لم يكن، لأن أي اعتذار يقدمه إلينا الدنماركيون أو غيرهم لا يمكن أن يطفئ نار الغضب والغيرة على شخصية رسولنا عليه الصلاة والسلام التي أججتها تلك الرسومات.