اللواء علي مملوك، رئيس جهاز المخابرات العامة في سورية، أحيا الذكري الأولي لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وكان علي نحو ما يردّ بذلك علي مهرجان بيروت الحاشد في مناسبة هذه الذكري، بطريقة قد تبدو مبتكرة تماماً للوهلة الأولي، ولكنها ـ بعد استذكار وجيز لطرائق عمل وركائز وجود مثل هذه الأجهزة ـ سوف تذكّرنا بأنّ هذا هو السلوك الوحيد اللائق باللواء مملوك وجهازه: لقد أعاد اعتقال النائب السابق مأمون الحمصي، واستدعي النائب السابق رياض سيف (كلاهما غادر الزنزانة قبل أقلّ من شهر فقط، في غمرة ضجيج وعجيج وكرنفال بعض المحامين العرب من أهل النفاق والكذب والمسخرة)، ثمّ اعتقل الناشط الديمقراطي البارز محمد نجاتي طيارة، وأعاد اعتقال محمد علي العبد الله الذي سبق أن اعتُقل لأنه دافع عن والده المعتقل علي العبد الله (صاحب الجريمة النكراء الشهيرة: أنه، في اجتماع عامّ علني لـ منتدي الأتاسي ، قرأ رسالة إلي المنتدي بعث بها المراقب العامّ للإخوان المسلمين علي صدر البيانوني، عن طريق البريد الإلكتروني!).
ولكي يعيد تذكيرنا بأنّ الزمن ينصرم دون أن تنصرم أساليب النظام الأمنية، أفرج اللواء مملوك عن الحمصي وسيف، بعد احتساء فنجان القهوة الذي بات تسمية شعائرية ما بعد ـ حداثية تعتمدها الأجهزة الأمنية السورية بديلاً عن تسميات سابقة أوضح، مثل الإستدعاء والتحقيق والإعتقال. لكنّ اللواء مملوك ندم، كما يبدو، علي إطلاق سراح الحمصي فأرسل يطلبه مجدداً من أجل فنجان قهوة ثانٍ؛ وحين وصل الرجال ولم يجدوا الأخير في بيته، مارسوا ما أتقنوا ممارسته طيلة عقود: اقتادوا ابنه ياسين الحمصي رهينة، ولم يفرجوا عنه حتي ساعة كتابة هذه السطور، رغم أنّ والده سارع بافتدائه وسلّم نفسه إلي الجهاز دون إبطاء.

في وسع المرء، كذلك، أن يعتبر هذه الطقوس الأمنية المملوكية (نسبة إلي سيادة اللواء، وليس إلي المماليك إياهم!) بمثابة هدية إلي تشكيلة الوزارة السورية الجديدة، وتحديداً إلي وزير الإعلام الجديد محسن بلال، لكي يحسن إعلام البشر حول ما يتغيّر في هذا البلد، أو بالأحري حول ذاك الذي لا يتغيّر ولن يتغيّر ما دام هذا النظام علي قيد الحياة. ونحن نعلم أنّ بلال يُقدّم اليوم بوصفه وجه السحّارة كما نقول في سورية، أي أحد النماذج التي تساعد في تلميع وجه الصندوق في التشكيلة الوزارية الجديدة. إنه طبيب عرف الغرب عن كثب، سواء أثناء دراسته في إيطاليا أو سفارته الطويلة في إسبانيا، وشاب لمع في مجلس الشعب وأوساط السلطة في العاصمة مطلع وأواسط الثمانينيات، وكان محطّ إعجاب حافظ الأسد شخصياً حتي أنه ذات يوم أراده بلال صهراً له، وصورة الجيل الوسيط الشابّ من البعثيين الذين أدركوا أنّ في هذا العالم الواسع ما هو أوسع من البعث الواحد قائد الدولة والمجتمع).

وإذا كنّا لم نسمع، حتي الساعة، تعليق الوزير الجديد علي اعتقال وإعادة اعتقال الحمصي وسيف وطيارة والعبد الله، فالأرجح أنّ الرجل وأبواقه في وضع محتوم جليّ سلفاً وقبل أن يدلي بأيّ تصريح، بالنظر إلي أنّ ما يأتي به الجهاز الأمني من أفعال ليس فوق النقد في وسائل الإعلام الرسمية فحسب، بل يتوجب أن يكون محطّ تنزيه وتثمين وتفخيم وتقدير. هذا، بالطبع، تقليد عريق متفق عليه ضمناً وعلانية أحياناً، أرستــــه الحركة التصحيحية منذ سنواتها الأولي، وحتــــي حــــين تولي حقيبة الإعلام رجال مقرّبون تماماً مــــن قــــادة الأجهزة الأمنية. الجديد فيه هو هذا بالضبـــط: أنهم يأتون برجل يتمّ الترويج له كـ وجه السحّارة الجدير بتلميع الصورة (ولا يُقال: تنظيفها!)، لكي تثبت أسابيع معدودات أنه مثل سواه، لا في العير ولا في النفير.
كانت هذه هي حال عدنان عمران وزير الإعلام في أوّل وزارة يشرف بشار الأسد علي تشكيلها في عهد أبيه، حيث قيل لنا إنّ عمران عاش في الغرب وعرف قيمة الإعلام وسيغيّر ويبدّل، فانتهي إلي اتهام دعاة إحياء المجتمع المدني ونشطاء ربيع دمشق بأنهم عملاء سفارات أجنبية ممّن يقبضون بالدولار. وكانت هذه هي حال مهدي دخل الله، الذي جاء إلي حقيبة الإعلام من رئاسة تحرير صحيفة البعث ، مصحوباً بالكثير من الطبول والزمور ولافتات التجديد والتغيير، فانتهي بدوره إلي اتهام السوريين من كتّاب القدس العربي و النهار و السياسة الكويتية بأنهم مشاريع عملاء لصحيفة يديعوت أحرونوت ! والامر ببساطة أنّ أمثال اللواء علي مملوك واللواء محمد منصورة (رئيس جهاز الأمن االسياسي) واللواء فؤاد ناصيف خير بك (رئيس جهاز الأمن الداخلي ـ الفرع 251) هم الذين في العير وفي النفير، لأنهم وحدهم خير ناقلي الإرادة الأعلي الأمنية والسياسية والإقتصادية والإعلامية كما يوحي بها أمثال العقيد ماهر الأسد واللواء آصف شوكت والفريق بشار الأسد.
والحال أنّ من حقّ كبار ضباط الأمن السوريين أن يتفاخروا علي كبار المسؤولين البعثيين المدنيين في جانب إضافي آخر قد يجهله البعض، وهو علوّ الكعب في الشؤون الثقافية والعلمية والأكاديمية! فعلي سبيل المثال، لكي نظلّ في دائرة وزارة الإعلام، ما الذي يميّز الدكتور محسن بلال خرّيج جامعتَي بادوفا الإيطالية وبنسلفانيا الأمريكية والأخصائي في زرع الكبد، عن الدكتور اللواء فؤاد ناصيف خير بك: خرّيج جامعة دمشق، والأخصائي في علم الإبستمولوجيا، وصاحب أطروحة الدكتوراه الشهيرة ذات العنوان الذي تقشعرّ له الأبدان: من الإبستيمولوجيا إلي المجتمع: التاريخانية والمجتمع المفتوح عند الفيلسوف بوبر ؟ بل مَن هو الأجرأ علمياً: الطبيب جرّاح الكبد، أم الضابط جرّاح الإبستمولوجيا التاريخانية عند فيلسوف نمساوي يهودي... يحدث كذلك أنه من كبار منظّري الفكر الصهيوني؟

وفي السياقات ذاتها، ولكن من منظور مختلف قليلاً من حيث طبيعة الإختصاص وليس طبيعة الصلاحيات، هل يصحّ اعتبار تعيين وزير الخارجية السابق فاروق الشرع في منصب نائب الرئيس للشؤون الخارجية والإعلام، بمثابة ترقية أم إحالة رمزية إلي التقاعد؟ وهل سلسلة المآزق التي يعيشها النظام في علاقته بالجوار الإقليمي، نجمت عن خيارات خاطئة في السياسة الخارجية، أم عن خيارات إنتحارية في سياسات أمنية خُيّل لصانعيها أنها وحدها التي تحصّن السياسات الخارجية، وتحفظ أمن النظام ذاته استطراداً؟ في عبارة أخري، هل كان الشرع هو صانع قرار التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود، أو حتي الشريك في اتخاذه؟ وهل كان شريكاً في، أو حتي تناهت إليه أخبار عن، قرار اغتيال الحريري إذا تبيّن بالفعل أنّ مثل هذا القرار اتُخذ في دمشق؟ وبأيّ معني يمكن شراء هذه البضاعة الديماغوجية، التي تتردّد في أوساط إعلامية وبعثية قريبة من الأجهزة الأمنية، وتقول إنّ تعيين الشرع نائباً للرئيس هو إشارة تشدّد وتصلّب يرسلها الأسد إلي العالم الخارجي؟
أغلب الظنّ أنّ الحلقة العائلية الضيّقة التي باتت تحكم سورية اليوم، وبعد أن ضاقت ذرعاً بأمثال غازي كنعان في بيت السلطة ذاته، لم تعد مستعدّة حتي لممارسة الحدّ الأدني من اللباقة الشكلية، التي كانت في الأشهر الأخيرة هي التي تُبقي الشرع وزيراً للخارجية. في الآن ذاته تكون تسعة أعشار القرارات الكبري في السياسة الخارجية حبيسة المطبخ العائلي للحلقة الضيّقة ذاتها، وحيث يحدث مراراً أن يكون الشرع آخر مَن يعلم بما يطبخه الأسد علي ذروة قاسيون صحبة صهره وأخيه، أو ما يطبخه مع المصريين والسعوديين في جدّة وشرم الشيخ، وما يطبخه هؤلاء بالنيابة عنه في باريس وواشنطن. وأغلب الظنّ، بالتالي، أن منصب الشرع الجديد يرسل إشارة نقيضة تماماً في الواقع: أنّ النظام سيقايض أفضل هذه المرّة، بطاقم جديد في الشكل علي الأقلّ، لأنّ المحتوي غير مفتوح للمقايضة أساساً في عرف واشنطن وباريس!

ولعلّ أوّل ما يلفت الإنتباه أنّ عدداً من الوزراء الجدد الذين تولوا حقائب حساسة في التشكيلة الجديدة، والذين تُطلق عليهم صفة الشباب ليس البتة لأنهم في أربعينيات الأعمار بل مقارنة بأمثال الشرع (68 سنة) ورئيس الوزراء محمد ناجي العطري (62) ووزير الخارجية الجديد وليد المعلّم (65)، كانوا محسوبين علي أجهزة اللواء المتقاعد علي دوبا، الرئيس التاريخي للمخابرات العسكرية، وذلك حين شغلوا هذا أو ذاك من المناصب الحزبية أو الإدارية أو الأكاديمية أو الإعلامية في سنوات سابقة. الأرجح أنّ هذه هي أوّل وزارة سورية يحظي فيها دوبا بهذا العدد الكبير من الأتباع السابقين، الأمر الذي قد يعزّز التقارير السابقة التي تحدثت عن حظوة خاصة أخذ دوبا يتمتع بها من جديد، ربما علي خلفية ضمان سكوته ـ وليس طمعاً في المزيد من الولاء ـ داخل جهاز السلطة السابق، وفي صفوف متقاعدي المخابرات العسكرية وبعض شرائح ضباطها الحاليين أيضاً.
ويبقي، بالطبع، أنّ الإبقاء علي العطري رئيساً للوزراء لا يدلّ علي الركود والإستمرارية فقط، بل يشير كذلك إلي أنّ حلقة السلطة الأضيق لم تعدّ مستعدّة للمغامرة بترقية أيّ اسم جديد، خصوصاً إذا كان قادماً من خلفية أمنية أو إثنية ذات طبيعة خاصة. ولقد ساقت الشائعات اسم اللواء هشام بختيار خليفة للعطري، وكان المنطق العامّ لسيرورة النظام يرجّح هذه النقلة الدراماتيكة، خصوصاً بعد انتخاب بختيار في القيادة القطرية ومحاولة تبييض ماضيه الأسود كضابط في الإستخبارات العسكرية. غير أن ما أبعد بختيار وأبقي علي العطري هو تفاقم مآزق النظام، وإغلاق غرفة الإنعاش السعودية ـ المصرية حتي إشعار آخر، وتعاظم المشكلات الإقتصادية الجدّية التي أخذت تهدّد الخزينة تدريجياً ومباشرة، وتهدّد بالتالي مصادر إشباع مافيات النهب والإنفاق علي الأزلام وإدامة شبكات الولاء.

ونتذكّر أنّ تكليف العطري بتشكيل الوزارة في خريف 2003 كان في الواقع أبرز مفاجآت تلك التشكيلة، إذْ لم يكن الرجل يملك من المزايا أيّ رصيد معقول يجعله يرتقي من عتمة رئاسة مجلس الشعب إلي أضواء رئاسة مجلس الوزراء. والفعل يرتقي صالح تماماً هنا، لأنّ العطري كان قد هبط من موقع نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الخدمات إلي وظيفة رئيس مجلس الشعب، التي تنحصر جوهرياً في تنظيم عمليات خضوع السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية، وقَنْوَنة وشَرْعنة أواليات هذا الخضوع. آنذاك اعتبرت شخصياً أنّ سلسلة المفارقات بلغت ذروتها في تركيبة تلك الوزارة، حيث بدا العطري عطّاراً يزمع إصلاح ما أفسد دهر الحركة التصحيحية ، الطويل الممضّ الثقيل الدامي.
لقد ذهبت حكومة محمد مصطفي ميرو الثانية (والتقارير اليوم تتحدّث عن منعه من السفر، والحجز علي أموال أقربائه المقرّبين!)، وجاءت حكومة العطري دون أن يلوح أنّ الجديد حلّ محلّ القديم. وآنذاك لاح أنّ المعادلة الوحيدة البادية في الأفق هي التالية: الأسوأ من احتمال وضع المراوحة في المكان هو أنّ تكون الحكومة الجديدة خطوة إلي وراء القديم الحقيقي، أي إلي المزيد من إحياء تقاليد الحركة التصحيحية في السياسة والأمن والإجتماع.
واليوم، مع وزارة العطري الثالثة، تكفّل اللواء علي مملوك بتذكيرنا بما كنّا نعرفه ولا ننساه، في عبارة المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي: القديم لم يمت بعد، والجديد ولادته عسيرة!
أم هي اليوم ولادة مستحيلة؟