منذ نشوء الدولتين والخطاب السياسي الذي يتناول العلاقات بين الشعبين الشقيقين مشدود الى نقيضين: المجاملة والتوتر، وكلاهما سيئ ومسيء.. الأول كاذب يخرج الى العلن في كل لحظة ومناسبة، والثاني حقيقي غير معلن لا يخرج من حدود الحلقات الخاصة.. بين حدي التوتر والمجاملة أضاع اللبنانيون والسوريون فرصاً عديدة بنّاءة كانت، لو أنها استغلت بجرأة وصدق وجدية، لتوفر على البلدين الكثير من المحن والمآسي.

مسألة العلاقات المميزة بين البلدين تعود الى نشوء الكيانين. والمعطى الموضوعي فيها هو أنه لا حدود سياسية فاصلة وواضحة بينهما قبل العام 1920.

في عهد الانتداب كانت الدولتان في وحدة اقتصادية وجمركية تامة يديرها مجلس مصالح مشتركة باشراف المندوب السامي.

خاض لبنان وسوريا معاً معركة الاستقلال والجلاء وأجريا مفاوضات مشتركة مع السلطة المنتدبة.

الروابط الاجتماعية والعائلية والروحية القائمة بين اللبنانيين والسوريين غير محصورة بفئات منهم بل هي موجودة لدى جميع الفئات من جميع الطوائف. ثمة عائلات واحدة موزعة بين لبنان وسوريا. التداخل بين العائلات يعمق الوحدة في النسيج الاجتماعي والقومي.

العلاقات اللبنانية/ السورية بعد الطائف باتت محكومة بالآتي:
إقرار عربي/ دولي بدور سوري في إدارة الشأن اللبناني على قاعدة تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني. رافق هذا الاقرار تجاوب مفرط من قبل فريق من اللبنانيين قابله اعتراض مفرط من قبل فريق آخر من اللبنانيين من وضع هذا الدور في خانة المساعدة على بناء الدولة وضبط الأمن وإنجاز الوفاق ومواجهة اسرائيل والمساعدة على التحرير، ومنهم من وضعه في خانة مصادرة الحكم في لبنان وتعطيل القرار اللبناني الحر والاضرار بالتوازن الوطني والوفاق والسيادة وجعل الحياة السياسية محكومة بسقف المصالح السورية.

معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق تركت تساؤلات عن مدى إمكان اعتبارها تمهيدا للوصول الى اتحاد كونفدرالي بين الدولتين. استتبعت باتفاقات ثنائية لم يدر في شأنها نقاش وطني واسع في داخل المؤسسات الشرعية المعنية كما في الندوات والحلقات المتخصصة، ما خلّف لبساً في أذهان الناس حول طبيعة جدواها الوطنية.

المجلس الأعلى اللبناني السوري لم يتحول الى مؤسسة. استعيض عنه بلقاءات بين الرئيسين وزيارات يومية كان يقوم بها مسؤولون لبنانيون لمسؤولين سوريين يتم فيها بحث الوضع الداخلي وخلافات أهل الحكم، فباتت بنتيجة ذلك سوريا المرجع والفيصل في شؤون لبنان الداخلية.

تداخل الأوضاع الاقليمية والمحلية جعل سياسة لبنان الخارجية والدفاعية والأمنية شأناً سورياً بمقدار ما هو شأن لبناني وربما أكثر!

العلاقات اللبنانية/ السورية بعد احتلال العراق باتت محكومة بالآتي:

ان ما جرى ويجري في لبنان وسوريا، بما فيه اغتيال الرئيس الحريري، هو من تداعيات الاحتلال الاميركي/ البريطاني للعراق ومن مستلزمات التغطية على ما يجري في فلسطين وكلاهما وجهان لمشروع أميركي/ صهيوني واحد يستهدف إعادة تشكيل الوطن العربي والمنطقة وبعض دول الجوار تحت عنوان <<الشرق الأوسط الكبير>>... التهديدات الأميركية للبنان وسوريا والاجراءات المتخذة ضدهما عبر قانون محاسبة سوريا (2003) والقرار (1559) تأتي في إطار العمل الجاد لتحقيق أهداف ذلك المشروع.

بعدما حررت المقاومة جنوب لبنان وطردت جيش الاحتلال في العام 2000.. وبعد إعلان أميركا حربها على <<الارهاب>> واحتلالها للعراق.. أصبحت أولويات أميركا في المنطقة واضحة: إعادة تشكيلها بما يحفظ أمن الكيان الصهيوني عبر تسوية تلبّي شروطه كاملة وبما يضع مصادر الطاقة تحت هيمنة أميركية تامة. هنا أصبحت سوريا ولبنان في دائرة الاستهداف المباشر وبات المطلوب فكفكة روابط الممانعة بين الدولتين وإضعافها لإبقاء المقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين والمقاومة في العراق من دون سند.

لذلك لا بد من أن يقوم بين لبنان وسوريا تفاهم جديد قوامه الآتي:

ربط تنفيذ ما تبقى من بنود القرار 1559 بجدولة زمنية لتنفيذ جميع قرارات الشرعية الدولية خصوصا القرارات 195 و242 و338 و425.

إعادة تصويب العلاقات اللبنانية/ السورية بما يوفر السيادة الوطنية للبنان والاطمئنان الأمني لسوريا. هنا أشير الى مبادرة في هذا الاتجاه أطلقها المنتدى القومي العربي في لبنان في العام 1999 وأجرى من أجل إنجاحها اتصالات بعدد من المسؤولين السوريين فشكلت لجنة مشتركة وعقدت اجتماعات وأعدّت أوراق لعقد لقاء موسع ومغلق بين شخصيات لبنانية واخرى سورية تنتمي الى اتجاهات سياسية متنوعة لبحث العلاقات بين الشعبين الشقيقين وآليات تفعيلها وتصويبها، إلا ان ظروفاً عاكستها ولم يقدّر لتلك المبادرة أن تأخذ مداها.

دعوة الدول العربية والدول الصديقة الى عدم الانجرار وراء السياسة الاميركية الساعية الى عزل سوريا عربياً ودولياً وإظهارها دولة داعمة للارهاب ومخربة للتسوية في المنطقة وحائلة دون الاصلاح الديموقراطي وإشاعة الحريات فيها.

الاتفاق على اتخاذ جميع الاجراءات لتطوير الديموقراطية وإقامة الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات والتداول السلمي للسلطة وصون الحريات العامة والخاصة وإعادة الاجهزة الأمنية الى عملها الأصلي المحصور في حماية أمن المجتمع والدولة والمواطن بعيدا عن التدخل المباشر أو غير المباشر في الحياة السياسية.

رفض التدخل الاميركي/ الفرنسي في الشأن اللبناني وفي شأن العلاقات اللبنانية/ السورية.

التشبث بعروبة لبنان هوية وانتماء وبوحدته الوطنية وبنظامه الديموقراطي وبدوره القومي وبموقعه المقاوم في حلبة الصراع العربي/ الصهيوني.

7 التصدي لأي كلام أو احتمال يقضي بإرسال قوات أجنبية الى لبنان تحت أي عنوان ووفق أي قرار أو استدعاء أو تدخل. أمن لبنان هو جزء من الأمن القومي العربي وتدويله مرفوض. ان حماية السلم الأهلي هو من مسؤوليات المؤسسات اللبنانية المختصة ومن حتميات التفاهم السياسي الداخلي والتفاهم السياسي اللبناني/ السوري.

الحكم الوطني في لبنان عمل تأسيسي مطلوب لتفاهم سياسي لبناني/ سوري ولعلاقات لبنانية/ سورية مميزة وقومية:

الحكم الوطني في لبنان هو الرهان وهو المستقبل في تصحيح العلاقة بسوريا وتثبيتها بوعي منه لأهمية الوفاق الداخلي في شأنها، فالوحدة الداخلية هي الأساس لوحدة الموقف من سوريا. ان قيام حكم الوفاق الوطني والوحدة الداخلية في لبنان هو العمل التأسيسي المطلوب لعلاقات لبنانية/ سورية فاعلة ومنتجة خيرا للبلدين.

الحكم الوطني يجسد قناعات لبنانية ثابتة بانتماء لبنان القومي وبأن دولة لبنانية مكتملة الشروط هي واجبة الوجود، ما يسمح له بجعل العلاقات اللبنانية/ السورية فعلاً قومياً مبنياً على الارادة الوطنية الحرة والوعي الاستراتيجي القومي والتعاون الثنائي الصادق من موقع التكافؤ واحترام الخصوصيات.

ان سوريا ولبنان يحتاجان الى تفاهم جديد. هذا التفاهم المطلوب يفرض أكثر من تعاون وتنسيق بين حكومتين، انه يتطلب إطلاق حركة تواصل وتفاعل يومي بين مؤسسات المجتمع المدني لتعميق الوعي الوحدوي القومي العربي المبني على الثقة والصدق والشفافية واحترام الآخر ومراعاة خصوصياته وحفظ كرامته وحقه في ممارسة الحريات، خصوصا حرية العمل السياسي.

العلاقة بين الشعبين الشقيقين ذات أبعاد قومية. فسوريا هي مدخل لبنان الى العروبة وهي في الوقت نفسه مدخل العروبة الى لبنان. هذا وليس في الامر أي انتقاص من استقلال أو سيادة. فمن وجهة نظر واقعية لا استقلالات ولا سيادات مطلقة في العلاقات الدولية فكيف في العلاقة بين شقيقين متجاورين في الجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك؟!

التفاهم الجديد في ظل الضغوطات الدولية المتزايدة والتحديات الاقليمية الداهمة توحيه وتفرضه حقيقتان موضوعيتان:

يتعذر إنقاذ لبنان من الوصاية الدولية ومن التهديدات الاسرائيلية وربما الخضوع لشروط السلم الاسرائيلي بالاستقلال ضد سوريا.

يتعذر إنقاذ سوريا من الضغوط الدولية ما لم يقم في لبنان حكم وطني داعم لسوريا.

العلاقات اللبنانية/ السورية بعد صدور القرار 1559 واغتيال الرئيس الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان وصدور القرار 1595 وتقريري فيتزجيرالد وديتليف ميليس:

بادعاء كشف الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري تم بسط الوصاية الدولية على لبنان. لذلك بات المطلوب من لبنان وسوريا معاً التفاهم على آليات التوفيق بين المساعدة على كشف الحقيقة ورفض الوصاية.

الوصاية الدولية رمت القطيعة بين لبنان وسوريا وفتحت لبنان مجددا على المشروع الاسرائيلي. وعليه بات المطلوب من لبنان وسوريا التفاهم على كيفية إبقاء لبنان في موقعه الجيوبوليتيكي القومي العربي بدون هيمنة سورية مباشرة أو غير مباشرة.

الوصاية الدولية عبر قراراتها وتقاريرها وتدخلات سفرائها وتصاريحها اليومية وضعت لبنان وسوريا معا في مواجهة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وعليه بات المطلوب من لبنان وسوريا التوافق على قبول جميع القرارات الدولية بدءا بالقرار 194 وانتهاء بالقرار 1559 ومطالبة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ببرمجة زمنية لتنفيذها.

الوصاية الدولية تستعجل تنفيذ ما تبقى من بنود القرار 1559. هذا الاستعجال يكاد ان يحدث فتنة في داخل لبنان وبين لبنان وكل المعنيين الاقليميين بسلاح المقاومة والسلاح الفلسطيني. لذلك بات المطلوب من لبنان وسوريا التعاون على مطالبة مجلس الأمن بحق لبنان في إعطائه الوقت الكافي لإتمام حواره الداخلي بشأن هذا السلاح بما يحفظ وحدته الوطنية وحقه في تحرير أرضه وحماية نفسه من الاعتداءات الاسرائيلية اليومية على شعبه وأرضه وجوّه وبحره وبما يحفظ حق الفلسطينيين في العودة منعا لتوطينهم فوق ترابه.

لبنان لا يبقى اذا كان وجوده تحدياً لبيئته الأضيق، سوريا، وبيئته الأوسع، الوطن العربي:

لبنان ليس دولة عنصرية وليس دولة دينية وليس دولة قومية وليس بالتأكيد مملكة موروثة أو إمارة مقتطعة وموقوفة.

كينونة لبنان القائمة على حرية الروح والرسالة لا على أرض تاريخية تقضي بإسقاط كل الفواصل الجغرافية بينه وسوريا والوطن العربي بكامل أرضه. الغاية من وجود لبنان ليست جغرافية. رسالته مداها الوطن العربي بكامل أرضه وشعوبه. دوره التلاقي والتواصل والاتحاد بهدف إنساني نبيل مؤداه رفع شأن الانسان المواطن العربي. الأهداف القومية بمضمونها الانساني لا تعرف حدودا وحواجز. لبنان وحدوي والغرض حرية الانسان العربي. كيانه السياسي لا قيمة له الا اذا توافرت فيه الحياة الحرة لجميع أبنائه. أبناؤه لا يكرهون لا في الدين ولا في المعتقد السياسي ولا في أنماط العيش والحياة. لبنان الحر هو الضمانة للجميع شرط تصحيح العلاقة بسوريا على قاعدة تقول:

استقلال لبنان التام عن سوريا مطلب سياسي شرعي ومشروع. أما الاستقلال ضد سوريا فهو يجسد قمة الغباء لا بل الانتحار السياسي وربما الانتحار الوجودي. بالمقابل سوريا مطالبة بفهم وتفهم خصوصيات المجتمع اللبناني واحترام طبيعة نظامه السياسي التعددي. وهذا شأن إشكالي آخر قد تتاح لنا فرصة الكلام عليه في مبحث آخر.