يحظى الأمين العام لـ»حزب الله» اللبناني، حسن نصر الله، بصفات قياديّة لا يحظى بمثلها أي من نظرائه اللبنانيين. فهو، من دون أدنى شك، أكثرهم جديّةً ومسؤوليةً، وأقلّهم زجلاً وسجعاً واستعارةً للصور الإنشائية من أدب سقيم. وربما كانت المفارقة، بالمعنى هذا، أن نصر الله، رجل الدين، ذو «نص» أحدث من «نصوص» القادة السياسيين الآخرين من غير رجال الدين. وبغض النظر عن مدى إيمانهم، هم، بقضاياهم، فالثابت أن إيمانه، هو، بقضيّته، صلب وبعيد.

لكن المشكلة تكمن، بالتحديد، هنا. فقد اعترف نصر الله بأن القضيّة المذكورة لم تحظ من قبل بإجماع اللبنانيين، بعدما ساد الزعم، طوال السنوات الماضية، بأنها محطّ إجماع لا يتزحزح. وهو تدرّج، في مواقفه المعلنة، حمله من الإقرار بعدم قيام الإجماع الى التوكيد على «قدسيّة» القضية من دون إجماع، بل بالرغم من الإجماع. وتلك خطوة على طريق القول إن الإجماع لا صلة له بالقضية، إن لم يكن ضدّها.

ويذكّر المنطق هذا بمنطق «ولاية الفقيه» حيث تُربط السياسة وقرارها بمرجعيّة غيبيّة لا صلة لها برأي البشر وتقديرهم وتصويتهم. بيد أن الغيبي في حالة لبنان والمقاومة مفاده أن ما من أحد يجوز له، سوى نصر الله، تقدير طبيعة «التهديد الاسرائيلي للبنان والردّ عليه». فالموضوع لا يتصل بشيء، لا بمزارع شبعا ولا بالترسيم ولا بالضمانات الدولية ولا بآفاق السلام العربي-الاسرائيلي. هناك، حسب «حزب الله»، تهديد اسرائيلي للبنان يفهمه الحزب وحده ووحده يقرر طريقة الرد عليه، فيما الاعتراض على ذلك الى الخيانة أقرب. وتيمّناً بالديكتاتوريين الذين يريدون «تمثيل مصالح الشعب» غصباً عنه، يتقدم نصر الله «للدفاع عن الشعب» غصباً عنه حيال خطر لا تفقهه أكثريّة الشعب هذا.

وخطورة عدم الاكتراث بالإجماع لا تقلّ عن خطورة افتعال الاجماع وزعمه قبلاً. ففي المرة الأولى، هو إشارة الى هيمنة تمارسها رؤية بعينها على باقي الرؤى، وفي المرة الثانية، وقد انكسرت الهيمنة، هو تماسّ مع الحرب الأهلية التي حذّر منها نصر الله!

وغني عن القول، وهو ما ذُكر واستعيد مراراً، إن القضية تلك باتت من الفقر والانكشاف اللذين لا يُستعاض عنهما لا بزيارة الوزير الإيراني منوشهر متكي الى لبنان ولا بزيارة «الزعيم» العراقي مقتدى الصدر. ذاك أن امبراطوريات كبرى تحكمها درجات بعيدة من الإجماع، تعجز عن مواجهة الإتفاق العالمي على رسم حدودها، واتفاق الكون كله على أنها لم تعد تملك أرضاً محتلة تستدعي جيشاً للتحرير وازدواجاً في أدوات العنف. فكيف وأن لبنان هو ما هو حجماً وقدراتٍ، يفتقر، وهو بلد الـ17 طائفة، الى الاجماع حول المسألة هذه، فيما تنظر أكثرية ساحقة من بنيه الى أن استمرار تلك المقاومة يسهّل ربطه بمصالح الأنظمة المجاورة، حائلاً دون قدوم الاستثمارات اليه ومتسبّباً في تراجع تعليمه وهجرة شبيبته وتردّي سائر حياته المدنية؟

ويُفترض، والحال هذه، أن يكون من الجائز اعتماد قراءة أخرى لهذه المقاومة تسترشد بشيء من التاريخ. فليست صحيحة، على الإطلاق، تلك الرواية الزائفة التي تبتدىء الزمن بـ1982 على طريقة القصص الخرافي: في الليل هجم الذئب الاسرائيلي ومع الفجر طلعت عليه المقاومة. ذاك أن الفترة التي امتدّت ما بين قيام اسرائيل وظهور المأزق السوري مع حرب 1967، لم تنطو على تهديد للبنان، فيما عاشت الحدود هادئة ساكنة، ونعم اللبنانيون بأفضل سنوات تقدمهم، ولو على نحو متفاوت، على الأصعدة جميعاً. ولئن نجحوا آنذاك في تجنّب العدوانيّة الاسرائيليّة، فما استجدّ لاحقاً لم يكن غير تتمة للحرب الاسرائيلية-السورية تُخاض بواسطتي لبنان و»منظمة التحرير الفلسطينيّة»، وطبعاً بالاستفادة من تناقضات اللبنانيين. أما خروج المنظمة، وإخراجها، بعد استجلاب الاحتلال الاسرائيلي، فأحلّ «حزب الله» حيث كانت تحلّ قوى أخرى، من غير أن يترك، ولو فسحة صغيرة، لمقاومات يُشَكّ في انضباطها على الإيقاع الإقليمي.

وهي قراءة من دون تطويرها تبقى المساجلة مع الحزب المذكور عرجاء مشوّهة. فهو يوالي جرّ الآخرين الى ملعب «القداسة» التي يهربون من التشكيك بها، فلا يفعلون غير تزويد القائد المتفوّق بقضية «مقدّسة» لم يبدأوا التشكيك بقداستها الا بعد جهره باحتقار الإجماع.