أطلب في الطائرة دوما، وبإصرار، مقعدا على جانب الممر، لا النافذة. حتى إذا اضطررت للقيام إلى حاجة من حاجات البشر، لا أزعج جاري ولا أمر أمامه. وأحرص أيضاً أن يكون الصف الذي يقع فيه المقعد قريباً من الحمام، بحيث إذا وقفت ومشيت لا اضطر لاستعراض جميع الركاب. ولا يبدي جيراني دائماً حيالي مثل هذا الحرص، لأسباب لا أفهمها. وفي الرحلة إلى بيروت أمس، لم أعثر إلا على مقعد في منتصف الممر. وكان إلى يميني شاب يتنفس من امعائه، والى يساري كهل يتنفس من حنجرته. فكلما تنفس عوى في صوت عال. وبعد تناول الغداء استسلم جار اليمين إلى النوم، فخف العواء. أما جار اليسار فكان يشاهد فيلماً ربما لعادل إمام. لأنه كان طوال الوقت يرفع بطنه بعصبية للتنفس ثم يرفع عقيرته للضحك بانشراح وانبساط. وأحيانا ينبسط لدرجة يمتد كوعه الى خاصرتي، فيعتذر بكل تأدب، ثم يضحكه عادل امام بعد قليل فيعود وينبسط ويكوّع على خاصرتي.
سألت المضيفة العزيزة إن كان هناك مقعد خال استطيع الانتقال اليه، فرفعت جفنيها بأسى. فعدت إلى مقعدي كما عاد عيد المتنبي، أي بأية حال أم لأمر فيه تجديد. فقد كان عادل إمام لا يزال يضحك جار اليمين، وكان جار اليسار قد أفاق فجأة من نومه. ويبدو أن حلماً مزعجاً أيقظه، فراحت حنجرته تحرك فكيّه الواسعين، بالسرعة التي يتنفس فيها جار اليسار من بطنه.

تساءلت في نفسي، أي خطيئة ارتكبت، وأي مظلوم ظلمت. فأنا قبل أن استسلم إلى النوم في الطائرة اقول للمضيفة متوسلا: «إذا شخرت، أيقظيني». والحمد لله انني لا أشخر وانا جالس مهما طال النوم وطال السفر، أما إذا حدث وتمددت فأين بطن جار اليسار وعواء جار اليمين. أو العكس أيضا. ولذلك يعيد جميع الركاب كراسيهم إلى الوراء، للنوم الطويل في الليل، أو للقيلولة في الرحلات المتوسطة. إلا الداعي لكم بطول العمر. أغفو مثل الخيول. وأتجمد مثل الافيال. وكلما مرّت المضيفة، اسألها: هل شخرت؟ تطمئنني، فأعود إلى النوم. الكرسي الوحيد الجالس الذي لم يطوَ.

ولا يبادلني أحد هذا الحرص. فيلم عادل إمام يطول، وصاحبي الكهل لم يعد إلى النوم. لقد طلب صحيفة أخرى، وهي من النوع الذي يطبع أربعين نسخة ويوزع خمسين. ويبدو أنه قرأ شيئاً لم يطب له، فعوى. ولما انتهى سريعاً من تصفح فراغها، طلب مجلة من النوع الذي لا يحل عليه التوزيع في الأرجاء فكيف في الأجواء. فاعتذرت المضيفة. وسألته إن كان يريد مجلة أخرى. أعوذ بالله. ذوقه يمنعه من قراءة أي شيء فيه ذوق.