لم يكن مؤتمر مدريد للسلام العربي مع الدولة العبرية عام 1991 هو اللقاء الأول الذي جمع الأطراف المعنية بالصراع العربي - الاسرائيلي على طاولة المفاوضات الا ان هذا المؤتمر شكل خطوة هامة ورئيسية في تاريخ هذا الصراع‚ وكان نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة جديدة اتخذ فيها العرب من السلام خيارا استراتيجيا‚

الا ان جولات المفاوضات واتفاقيات السلام التي عقدت مع غير طرف عربي خلال السنوات التي تلت مؤتمر مدريد لم تستطع إلغاء حالة الصراع‚ ولم تشرع الأبواب العربية على مصراعيها امام «الفتوحات» الاسرائيلية‚ كما انها لم تضع حدا للعدوان الاسرائيلي على الشعبين الفلسطيني واللبناني‚ ولم تضع حدا للاختراقات الامنية والسياسية والاقتصادية الاسرائيلية ضد الدول العربية المجاورة‚

ورغم مشاركة الحكومة السورية بوفد رفيع المستوى في مؤتمر مدريد‚ والمفاوضات الثنائية التي جرت في غير مكان بين الحكومتين السورية والاسرائيلية الا ان الجانبين لم يوقعا على اتفاقية سلام ولم تؤد المفاوضات الى الاعتراف المتبادل‚ وقد شهدت اواخر التسعينيات تقدما ملحوظا في المفاوضات بين دمشق وتل أبيب‚ الا انها وصلت الى طريق مسدود‚ وتوقفت المفاوضات لأسباب غير مفهومة بسبب التعنت الاسرائيلي تجاه الحقوق السورية المشروعة‚

وشكل عقم المفاوضات على المسار السوري والتعنت الاسرائيلي في تنفيذ قرارات الشرعية الدولية والانسحاب من هضبة الجولان دون شروط مذلة لسوريا‚ عقبة اساسية في وجه اي سلام على هذا المسار‚ وفي وجه اي انفتاح اسرائيلي شامل على الأقطار العربية‚وجاءت الانتفاضة الفلسطينية وتصاعد العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني‚ والتطورات التي شهدها الجنوب اللبناني والتي توجت بالتحرير ودحر الاحتلال والعدوان الاميركي الواسع ضد العراق وتطور الخلافات السورية الاميركية ليزيد الامور تعقيدا على مسار المفاوضات الاسرائيلية - السورية‚ ويجعل من امكانية تحريك عملية السلام على المسار السوري امرا مستبعدا ان لم يكن مستحيلا‚ فالادارة الاميركية المنهمكة في العراق لم تكن على عجلة من أمرها لإعادة المفاوضات على المسار السوري‚ والحكومة الاسرائيلية اخذت تراهن على تأجيج الخلاف السوري الاميركي وانتظار «الفوضى» الأميركية لتعم سوريا وتسقط النظام الحاكم‚

الا ان ما كان في الادراج الاميركية تجاه سوريا خلال السنوات الماضية‚ اصبح اليوم على طاولة مراكز القرار‚ وبعد سنوات من الانشغال الاميركي ـ الاسرائيلي في لبنان والعراق وفلسطين‚ يبدو ان الوقت قد حان لمواجهة سورية ـ اسرائيلية ومواجهة سورية ـ أميركية مباشرة‚ تحاول ادارة بوش المتشددة فرضها على المجتمع الدولي كما فعلت في العراق‚

امام هذا الواقع‚ ومع استحالة تنفيذ سوريا لكافة الشروط الاميركية ـ الاسرائيلية وبعد ان اصبح النظام في سوريا يشكل عقبة حقيقية في وجه ما تخطط له واشنطن وتل ابيب في المنطقة كان لابد من التفاتة اميركية تجاه دمشق أولا للمحاسبة على ما تقدمه وما قدمته من دعم ومساندة لحركات واحزاب المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق وثانيا لعدم قدرة الادارة السورية على تنفيذ المطالب الاميركية ـ الاسرائيلية في النظام الاقليمي الجديد ولان بنية الادارة السورية الحالية لا يمكن لها ان تتلاءم او تتكيف مع المرحلة الاميركية المقبلة لذلك كله اصبح الملف السوري من ابرز اهتمامات الادارة الاميركية وبدأت واشنطن تخطط بشكل مكشوف وبقوة من اجل محاسبة ومحاصرة سوريا واسقاط نظامها ونشر «ديمقراطيتها»‚

وهذا ما جعل الحديث عن امكانية تحريك المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية امرا في غاية الصعوبة وان السلام اصبح مستحيلا بين دمشق بنظامها الحالي وتل ابيب بنظامها العدواني المتحالف مع واشنطن وذلك ان الشروط لم تعد شروطا اسرائيلية بل اصبحت شروطا اميركية واختلطت فيها الاهداف العدوانية مع القرارات الدولية ومع رغبات دول كبرى في العالم‚

لكن السلام لا يمكن له ان يكون ان لم يكن سلاما شاملا ومقبولا من جميع الاطراف المعنية وهذا يعني ان لا سلام في المنطقة ان لم يشمل هذا السلام المسار السوري‚ وامام المخاضات التي تشهدها الساحة السورية وتزايد الضغوطات الدولية والتهديدات الاميركية والدولية خاصة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري والفوضى الخلاقة التي تعم لبنان يبدو ان السلام مازال بعيد المنال‚ ولا يمكن لنا ان نشهد توقيع اتفاقيات سلام بين دمشق وتل ابيب في المدى المنظور‚ كما انه لا يمكن لنا ان نشهد سلاما عاما وشاملا وعادلا في المنطقة في ظل التوتر القائم اليوم على الجبهة السورية ـ الاسرائيلية والجبهة الاميركية ـ السورية‚

واسرائيل لا تجد مصلحة لها في تحريك المفاوضات مع سوريا لانها ترغب في تزايد الضغوطات على دمشق ولذلك لا يتوقع ان تستأنف مفاوضات السلام على المسار السوري مع اسرائيل بالرغم من الرغبة السورية الشديدة في استئنافها‚

أما وإذا كانت الإدارة الأميركية تعمل من أجل السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وفق مفهومها ومصلحتها في السلام‚ فإنها لا ترى ذلك بوجود أنظمة متشددة ومتمسكة بحقوقها كما هو النظام الحالي في دمشق أو كما كان الرئيس ياسر عرفات‚ لذلك فإن السلام كما تراه واشنطن لا يمكن تحقيقه بوجود هذه الانظمة التي لا تتلاءم مع ما تخطط له واشنطن في المنطقة ويرضي‚ بل ويأتي لمصلحة الفوضى الخلاقة‚ ولمصلحة إسرائيل كسيدة وزعيمة لمنطقة الشرق الأوسط‚

لذلك فإن دمشق تقف اليوم وجها لوجه في ميدان الصراع‚ مقابل واشنطن وتل أبيب‚ وأخذ كل طرف يستعد للمنازلة الحتمية‚ لا العودة إلى طاولة المفاوضات‚ وإذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تنتظر المزيد من التنازلات السورية‚ إلا أن ذلك لا يلغي المنازل‚ ولا يوقف «الفوضي الأميركية الخلاقة» التي تسعى واشنطن لتعميمها كبديل لأنظمة عربية تختلف معها‚ ولم تتكيف مع مخططاتها‚

يمكن القول إن آفاق السلام السوري - الإسرائيلي يرتبط بعوامل دولية واقليمية هي اليوم غير مؤاتية لذلك‚ وهذا يعني أن السلام وفق المنظور الأميركي ــ الإسرائيلي‚ أمر ليس واقعيا مع النظام القائم في سوريا‚ وإذا كانت سوريا ترغب باستئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي دون شروط‚ وهي على استعداد لتقديم المزيد من التنازلات ولتنفيذ ما يمكن تنفيذه من المطالب الأميركية‚ إلا أنها لا ترغب أبدا في اسقاط نظامها أمام الفوضى‚ ولا ترغب في «خلع» أبوابها السياسية والاقتصادية والأمنية لمصلحة المخططات الأميركية دون تحقيق الحد الأدنى من مصلحة الطبقة الحاكمة‚

وإذا كانت تل أبيب ومعها واشنطن ترغب بتحقيق السلام الذي يضمن لها مصالحها‚ فإن الادارة السورية الحالية لا يمكن ان تحقق لها ذلك‚ وهذا ما يجعل من إمكانية استمرار الصراع والمواجهة أمرا حتميا خلال المرحلة القادمة‚ فالإدارة الأميركية التي تعمل من أجل محاسبة سوريا على دورها الاقليمي وبنيتها الداخلية‚ ترى ان من مصلحتها اسقاط النظام السوري من أجل تسهيل وصول إدارة سورية ملائمة‚ وهي تراهن على كل ذلك وترفض تحريك عملية السلام على المسار السوري في ظل المأزق الذي وصلت اليه دمشق‚ وترفض منحها أيا من حقوقها بانتظار تبديل النظام‚ وتبديل الحقوق‚