الحوار الذي يطلقه الرئيس نبيه بري، بعظيم تهيئة وكثير ترتيبات، هل انتهى قبل ان يبدأ باعلان انتخابات وفاقية في دائرة بعبدا – عاليه؟... على رغم اعلان بعض الفرقاء انه لا يؤمن بالحوار ولا يريده بمعزل عن "المعركة" الأهم، أي تنحية رئيس الجمهورية الذي يعترف النواب الذين جددوا له انهم فعلوا مكرهين، ومن "دولة أجنبية" في مخالفة للدستور، ولو كانت الدولة "شقيقة"!

ذلك ان تزامن الوفاقية الإنتخابية في دائرة كان قد صار يُنظر اليها وكأنها ميدان استفتاء لا للترشح لرئاسة الجمهورية فحسب، بل تجربة مرّة لمدى تقبّل جمهورَي فريقي الاتفاق العوني – "الحزب اللهي" للاتفاق الذي كان قد تم بينهما، على تباعدٍ سبقه... والرواسب بعضها لا يزال عالقاً.

أما التجربة، فلم يعد لها ثمة حاجة لمجرد استمرار الفريقين في اتفاقهما الوفاقي، ومضيّهما معاً في خوض انتخابات زالت معها مواجهة أشد معارضي الوفاق، ولو لم ينضمّوا اليه او يعلنوا موافقتهم على بنوده.

وهكذا صار في امكان رئيس المجلس ان يعتبر ان ليست ثمة ممنوعات لا يمكن حواره استيعابها وجعلها احدى ورقات العمل، بل ورقات "المفاوضة" – كي لا نقول المساومة - في الحوار العتيد.

غير ان افق الحوار الأبعد الذي ليس ما يشير الى التوجه اليه على نور وبصراحة في التعمق الدستوري، هو مسألة التكوين الطائفي أو "الطوائفي" للمجتمع السياسي اللبناني... وهي المسألة الجوهرية،ولو لم يُعلن عنها هكذا، منذ انشاء الجمهورية اللبنانية في عشرينات القرن العشرين، ثم عند التوصل الى استقلال 1943 المبني على "الميثاق الوطني" الذي تبلور حوله الدستور، بل هو صار مذذاك الدستور غير المكتوب الذي كادت تسقطه أول مرة حرب 1958 "الأهلية" التي أشعلتها المواجهة الناصرية – الاميركية، نتيجة استقطاب الوحدة المصرية - السورية فريقاً رئيسياً من اللبنانيين، بينما اصطف الفريق الآخر مع "مشروع ايزنهاور" الذي سار به حكم الرئيس كميل شمعون، الى ان سقط المشروع عند ثورة العراق في 14 تموز 1958 فجاء الاسطول الاميركي السادس لا لنصرة شمعون، بل لإلجائه على القبول برئاسة اللواء فؤاد شهاب، بعد الاتفاق (هل نقول "الوفاق"؟) مع ناصر والناصريين في لبنان!

العبرة من استذكار هذه الأحداث مزدوجة:

هي أولاً التأكيد ان كل "أزمة دستورية"، بل كل تبديل رئاسي او "نظامي" في لبنان يتزامن مع ازمة اقليمية – دولية، وذلك منذ القرن التاسع عشر... هذا للذين لم يقرأوا او لا يقرأون ويستمرون يستغربون او يستهجنون "الاهتمام" الدولي - كي لا نقول "التدويل" - الذي يرافق حلول الأزمات او هو يستنبطها وينشئ "آليات" حلولها بدرجات متفاوتة من النجاح. والعبرة انه ليس في وسع "الداخل" اللبناني ان يحل النزاعات الاقليمية بقدر ما في وسع القيمين عليها التأثير على "الداخل" اللبناني. والعلاج البديهي لذلك ان نؤهّل المناعة الداخلية بالتوحيد الوطني حتى لا تخترق صفوفنا القوى الخارجية كما تحاول باستمرار ولكي نفرض نحن ألاّ تنظر الينا من زاوية نزاعاتها بل من زاوية ما نلتئم نحن حوله كما كان الحال في "الطائف".

وثانياً ان ازماتنا الدستورية تتكرر، بمقادير متفاوتة من العنف والتعقّد، ليس فقط بنسبة التدخل العسكري من الفرقاء الدوليين عبر الفرقاء اللبنانيين المتواجهين (في "حروب من أجل الآخرين")... بل خصوصاً بنسبة ما لا نذهب الى اعماق الجذور في معالجة عوامل هذه الازمات وتحقيق الاصلاحات الدستورية التي تمنع تكرارها، بل تقطع الطريق على "الآخرين" في الانسياب عبرها الى أسباب نزاعاتنا الكامنة وتوسّلها لاشعال الحروب ودفعنا الى خوضها.

ولكي نختصر ما صار معلوماً، نعود الى المطلوب من الحوار الدستوري اليوم لنقول بصراحة انه لا يكفي ان نختبئ وراء المعميّات والمداهنات ونصطنع، مثلاً، جو اطمئنان الى "حزب الله" واستمرار سلاحه، بحجّة ان اقصى اليمين المسيحي، أي "التيار العوني" قد توصل الى اتفاق معه يرسم طريق تجاوز المسألة رابطاً، وعن حق، مستقبل السلاح باسترجاع شبعا ومزارعها.

كلا، لا يكفي ذلك، ولا يكفي ان تدعو مراجع دينية اسلامية الى قمة روحية في المقام المسيحي اللبناني الأرفع... كل ذلك لا يجدي في النهاية، اذا لم نعد في النصوص الى ايجاد الآلية التي اقترحها مؤتمر الطائف الذي كان آخر ابرز محطات المشاركة العربية – الدولية في معالجة آخر وأخطر أزماتنا الدستورية على نحوٍ أعاد السلام ولكنه حيل دون استكماله الحلول التي طرح.

أما الآلية هذه – ولنقل الاصلاح المؤسساتي الدستوري المأمول – ففي أـمرين رئيسيين:

أولاً: انشاء مجلس شيوخ لكي يجيء تمثيل الطوائف منفصلاً عن التمثيل الشعبي المدني. واذذاك تصير "القمة الروحية" مجدية بنسبة ما تساهم في اجتذاب المؤمنين الى روحانية الايمان، كل في ايمانه... فلا يبقى الانتساب الديني مجال عصبية قبلية تدفع نحو العنف البربري كما في احراق الكنائس في نيجيريا وسواها... بل على العكس تصير العلمانية السياسية أفقاً جديداً لتلاحم الطوائف وتكاملها في فصل الدين عن الدولة. ويبقى "رب العالمين" الاله الواحد، اله الجميع، توحِّد ذاته بين المؤمنين به، كل وفق قواعد ديانته وطقوسها، ولا "جهاد" مزعوم من هنا او "صليبية" مزورة من هناك!!!

ثانياً: السير في "اللجنة الوطنية للتمهيد لالغاء الطائفية". وقد فرضت سوريا (الشقيقة، ما غيرها) ألاّ تُنشأ هذه اللجنة إلا بعد تأليف "حكومة اتحاد وطني" (منعت تأليفها مرات) تنجح في كل شيء منعونا من النجاح فيه.

فهل يجرؤ الرئيس نبيه بري على السير في حواره الى درجة طرح المشروعين بل تحقيق الاتفاق على تنفيذهما ولو مرحلياً؟... بالتنسيق مع السير في مشروع الاصلاح الانتخابي الذي يقال انه صار او يكاد يصير جاهزاً للطرح على المجلس في الموعد المحدد، أي ضمن مهلة الحوار.

وبعد، ختاماً، هذه الملاحظة الشكلية التي قلناها ونرددها باستمرار:

الحوار ليس مناظرة ولا مبارزة... أي انه لا يمكن ان يقوم ويتم بنجاح اذا تسمّرت المواقف و"تأبّدت"، وظل كل فريق على آراءٍ يريد هذا وذاك برهان صوابيتها، غير منفتح على الآخر وعلى منطقه، في سبيل تطوير آراء هذا وذاك صوب وفاقٍ ما.

كذلك الحوار الوطني، حتى يكون ديمقراطياً، ليس معناه "اتفاق كل الناس على كل شيء"... وهذا مستحيل انسانياً ونظامياً، فضلاً على انه بمثابة التمهيد لاقامة نظام "كلّي"، أي ديكتاتوري.

وهذا ما يرفضه لبنان، وما نفترض ان الرئيس بري، كرئيس برلماني ديمقراطي، لا يمكن ان يعمل له ولا ان يجعله حلماً رئاسياً لأي أحد.

ومتى سلّمنا بذلك كله واتفقنا على المسيرة ومنطقها – مما يمكن الاتفاق عليه في أيام محدودة - يهون حسم مسألة مستقبل رئاسة السيد اميل لحود، من غير ان يشترط أحد على أحد لا الاتفاق، بالحوار، بين "كل الفرقاء" على "كل شيء"... ولا بالأخصّ الاتفاق المسبق على خَلَف يضع انتخابه حداً للاشرعية الولاية الرئاسية المجددة التي زلزلت لبنان وكلفته كل ما ومَن كلفت، ثم مكّنت "الشقيقة" سوريا من الاستمرار، على رغم جلاء جيشها، في محاولة افتعال حروب "اهلية" مستحدثة كالتي رفضها ويرفضها اللبنانيون، كل اللبنانيين!