في فيلمه الأخير «تصبحون على خير، وحظّاً سعيداً»، ذكّرنا جورج كلوني بأن المكارثيّة إنما ابتدأت، عام 1953، بـ»200 متسلّل يحملون بطاقات انتساب الى الحزب الشيوعي».

بالطبع، كانت الحرب الكوريّة السبب الفعلي وراء المكارثيّة، لكن «الـ200 متسلّل» ممن «يهدّدون» أميركا، بدوا الذريعة للحملة الأشرس في استهدافها الديموقراطيّةَ والثقافةَ على امتداد تاريخ الولايات المتحدة. وفي الأمر طعم العبث، فضلاً عن طعم الخديعة، مما نلمسه مجدداً إذ نستعيد قيامة العالم المتواصلة منذ جريمة 11 أيلول (سبتمبر). فإرهابيّو «القاعدة» مثّلوا، منذ 2001 حتى الآن، «المتسلّلين» الجدد ممن استُخدموا ذريعةً لشنّ حروب وإجراء تحويلات هي أكبر كثيراً مما أقدمت عليه المكارثيّة.

يضاعف الشعورَ بالعبث أن «الحرب على الإرهاب» أوشكت، زمناً، أن تقارب الزمن الذي استغرقته الحرب العالمية الثانية (1939-45) ضد ألمانيا النازيّة وإيطاليا الفاشيّة واليابان الإمبراطوريّة دفعةً واحدة! وهاهي الدعوات تتتالى، في الولايات المتحدة كما في بريطانيا، الى مواجهة «تدوم عقوداً»، يتداخل فيها الغثّ والسمين، والغريب والعجيب، من حروب في أفغانستان والعراق، الى تشدّد ظالم في فلسطين، ومن دعوة لا تفتر الى اعتناق الديموقراطيّة، الى تطاول على بعض الحقوق المدنية في بعض البلدان الغربيّة.

وقصارى القول إن الردود على الحدث الكارثي الذي جسّده 11/9 غدت تتعدّاه كارثيّةً، من دون أن يظهر في الأفق ما يدلّ الى تقدّم حاسم في أي من مجالات الحرب المركّبة والمختلطة تلك. وقد تكون الطلّة البهيّة لبن لادن، ومعاونه الظواهري، إذ يطلعان علينا من الكهوف بين فينة وأخرى، تنويهاً غني الدلالات بمآثر الحرب البوشيّة الغارقة في أوحال غوانتانامو وأبي غريب. فبدل إيكال أمر «المتسلّلين» الى أجهزة الشرطة المدعّمة، فقط حين يلزم الأمر، بوحدات عسكريّة، وإرفاق ذلك بسياسات، محلية وخارجية، مغايرة لنهج جورج بوش، تتكامل عناصر لوحة يسمّيها التبسيط «حرب حضارات».

صحيح أن خلافات جذريّة وأساسيّة تفصل بين نظرتين، حديثة وغير حديثة، الى الذات والعالم. لكن استمرار «الحرب على الإرهاب» غدا سبباً لتسمين النزاعات تلك وتعزيزها، وتصديرها الى البيئة الجديدة للمهاجرين في أوروبا أو استيرادها منها، على ما دلّت مشكلة الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية وتدل. ومَن يسمع اليوم الأصوات المنبعثة من طهران، السياسي منها والنووي و»الثقافي»، يتيقّن من أن مجتمعات بكاملها تستفرغ آخر ما حُقنت به من حداثة وتنوير على امتداد القرن الماضي، واجدةً في سياسات أميركا وإسرائيل حجّتها ومبرّرها. ذاك أن المعارك السياسيّة باتت تكتسي، أو يُراد لها أن تكتسي، حلّةً «حضاريّة» تجعل الخلافات عابرةً للمواضيع، شاملةً كل شيء، هابطةً بنا جميعاً الى الجذور والأصول وما كان يبدو، قبل ربع قرن، بديهيّات.

وفي مقابل القسوة التي يُبديها الأميركان والإسرائيليون حيال الشعب الفلسطيني الذي أطاع واشنطن وتوجّه الى صناديق الاقتراع، يكشف فوز «حماس» ومضاعفاته أمراً بالغ الخطورة في ما خص طبيعة الانشقاق الكونيّ هذا. فالطرف الآخر، وهو راديكاليّونا، صار يحتكر الكلام المشاغب، والفعل المشاغب حين تسنح الفرص، تاركاً لخصمه أمور الحياة: فحين نريد أن نأكل ونعمل ونتعلّم ونتطبّب، نسأل عن الغرب ونسائله في ذلك، تماماً كما تفعل قنوات تلفزيونية غاضبة تُقرّ ضمناً بأن الموادّ والتقنيّة والخبرات له، وبأن الصراخ وحده لنا.

وهي قسمة غير عادلة لأن من يمسك بشرايين الحياة قد يقطعها بذريعة حفنة من «متسلّلين»، ملوّحاً بالسلاح النووي، على ما فعل شيراك، أو بالاستغناء عن النفط، على ما فعل بوش. لكنها، أيضاً، قسمة غير لائقة لمن يقف اختصاصه عند تصعيد أوتاره الصوتيّة فما أن يعضّه الجوع حتى تخفت