عندما انفجرت الثورة الايرانية بقيادة اصولية هي القيادة الخمينية ثم انتصرت باسقاط الشاه عام 1979، وبعد اشهر غير طويلة اندلعت حركة مقاومة عام 1980 بقيادة اصولية في افغانستان ضد الغزو السوفياتي الذي تعرضت له... كانت تركيا تشهد آخر انقلاب عسكري كلاسيكي، قامت فيه الدبابات بوضع السياسيين المدنيين في السجون ولاحقا المنازل تحت شعار الحفاظ على امن الدولة الاتاتوركية التي كانت تهددها في تلك الايام من بداية الثمانينات الحركات اليسارية لا الاصولية المسلحة.

... لم يكن احد ليتصور انه خلال ربع قرن منذ ذلك الحين سينشأ وضع في تركيا يصبح فيه نفوذ جيل جديد من الاسلاميين احد مرتكزات رئيسية، لا في حضور تركي فعال في العالم المسلم فقط، بل في دور ريادي في هذا العالم. فعبر حكومة انقرة "الاسلامية" نشاهد وفد حركة "حماس" الفائزة بشكل مثير في الانتخابات التشريعية الفلسطينية حاضرا في العاصمة التركية، وباحثا عبر تركيا ذات الصلة الوثيقة بالغرب عن قنوات تساعدها على التكيّف مع المسؤوليات الوطنية الهائلة التي ألقاها عليها هذا الفوز.

صحيح ان هذا الوزن التركي لا يجوز حصره – موضوعيا – بدور حكومة رجب طيب اردوغان، بل هو حصيلة لعوامل عديدة من التقدم التحديثي، الاقتصادي، والتنموي، والسياسي في الدولة والمجتمع التركيين... تقدم جعل أصلا من الممكن ان "تهضم" تركيا وجود حكومة "اسلاميين" جاءت من انتخابات "ثورية" النتائج: لقد قضت صناديق الاقتراع تقريبا على طبقة سياسية قديمة من "العلمانيين" الذين اتخمت احزابهم بآليات الفساد، مع انهم في الوقت نفسه قادوا تركيا ايضا في مسارات تقدم اقتصادي، وانجز بعضهم مهمات "وطنية" من نوع انهاء التمرد الكردي المسلح في جنوب شرق البلاد. كان جيل جديد من السياسيين يصل مع "اسلاميي" رجب طيب اردوغان، وجيل قديم يذهب الى التقاعد او الى الهامش السياسي بينهم ايضا جيل اساتذة اردوغان وعبدالله غول... وبصورة خاصة نجم الدين اربكان العجوز الذي كان حزبه "السعادة" منشغلا بالاعداد لتظاهرة استنكار ضد الكاريكاتور الدانماركي في الوقت الذي كان خالد مشعل والبعض من قيادة "حماس" يلتقون بقيادة "حزب العدالة والتنمية"... باستثناء اردوغان. ولا شك انه سيكون لتركيا – عبر حكومتها الحالية – دور فعال تعلبه في مستقبل الوضع الجديد المعقد الناشئ في فلسطين بعد الانتخابات. الا ان الوضع نفسه لا زال في البداية، وهناك عوامل عديدة ذاتية فلسطينية واسرائيلية، ومعها اميركية اوروبية، ستحدد تقاطعاته الآتية، التي من خلالها يمكن لاحقا معرفة اين للدور التركي ان يكون فاعلا، مثلما هي الآن ادوار دول اخرى كمصر.

ما يعنينا اليوم، هو ان تطلّع "حماس" نحو تركيا، يشكل تأكيدا جديدا على ولادة "النموذج التركي" في المنطقة. لقد اعلن ذلك خالد مشعل في انقرة وتحدث عن نموذج تركي، حين قال ان "تركيا تشكل نموذجا بالنسبة لنا".

لقد خرجت الكلمة اخيرا في العالم العربي من الجو "الاسلامي الاصولي": "النموذج التركي"... بينما لم ينتبه الى "النموذج" الا متأخرا جيلُ اليساريين والقوميين الذين رفضوا طويلا ليس فقط الاعتراف بالتجربة التركية المتميزة – ولو القلقة – في مجالي التحديث السياسي والاقتصادي، بل كانوا اساسا يرفضون الاهتمام بهذه التجربة، كانوا يرفضون حتى محض معرفتها!

لم تنتج عودة الانتباه بين النخب اليسارية – القومية في العالم العربي وتحديدا المشرق الى التجربة التركية الا... عن الاحساس العميق بالازمة... بل بدأ الاهتمام الايجابي بصورة ما بعدما دخلت انظمة الخطاب اليساري القومي في مآزقها الوجودية. ولعل اهم مثال على ذلك موقف النظام السوري، بل موقف كل النخبة اليسارية القومية في سوريا بما فيها المعارضة.

لقد كانت تركيا الثمانينات، ثم التسعينات عدوا في الخطاب السياسي السوري، وكان مجرد الاهتمام المعرفي بتركيا والسعي للتواصل السياسي – الاعلامي معها تهمة امنية وليس فقط سياسية في سوريا وفي لبنان الداخل في الفلك السوري. وكان جزء واسع من الطبقة السياسية اللبنانية يردد بشكل تلقائي مقولات "الحلف التركي – الاسرائيلي" بتبسيطية اتهامية هائلة.

دارت الايام دورتها... وخلال سنوات قليلة، لا سيما بعد احداث 11 ايلول ثم بصورة خاصة بعد سقوط بغداد في نيسان 2003، "اكتشف" النظام السوري كم ان تركيا الدولة، اصبحت قوة استقرار في المنطقة... وصار هو – اي النظام السوري – احد المستفيدين الرئيسيين من المسافة التي وضعتها تركيا عن حليفتها واشنطن، سواء حيال مشروع الحرب في العراق، ثم عن الحرب نفسها، والآن حيال التوتر مع سوريا.

في منطقة متغيرة، لعله من الافضل استخدام تعبير "قوة اتزان" في وصف الدور التركي حاليا في منطقتنا المضطربة... وليس "قوة استقرار". اولا لان هناك ديناميكية تغيير عميقة في العالم العربي لا تستطيع تركيا وقفها، حتى لو تناقضت مصالحها مع المشروع التغييري الاميركي في بعض "دوائره". وثانيا لان دينامية التقدم السياسي الاقتصادي في تركيا تجعل الاخيرة نفسها نموذج تغيير ديموقراطي في العالم العربي.

... في هذا الجو ولد ويولد "النموذج التركي"... جو صدام عالمي ثقافي – سياسي بين اسلام اصولي وغرب اميركي اوروبي، يشحنه ازدياد المسافة الاقتصادية بين "العالمين"... ويغذّيه تعثر قضايا كبيرة تطبع "علاقات" هذين العالمين على رأسها القضية الفلسطينية، اي الصراع العربي – الاسرائيلي.

يولد "النموذج التركي" من امكان قيام دولة مسلمة حديثة، "نمر اقتصادي" ونظام سياسي اظهر قابليته لاحتضان ولادة تيار "اسلام ديموقراطي" على غرار "التيار المسيحي الديموقراطي" في اوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم كل المشاكل والتوترات بل والانغلاقات في مسار انتقال الجمهورية التركية من "العلمانية الاولى" الاتاتوركية المصطدمة على النمط الفرنسي مع الدين، الى "العلمانية الثانية" المتصالحة مع الدين على النمط الاميركي... رغم كل ذلك فان الخط التركي الديموقراطي هو خط تصاعدي... (حتى لو كانت زوجة رئيس الوزراء محرومة حتى اليوم من حضور الحفلات الرسمية في قصر رئاسة الجمهورية بسبب ارتدائها الحجاب!!).

... حتى اليوم لا زال العديد من السياسيين و المثقفين الاتراك يرفضون فكرة "النموذج التركي" خصوصا حين يتعلق الامر بالعالم العربي، وهذا موقف ناتج عن عقدة مزدوجة: من جهة عدم رغبة المؤسسة السياسية التركية، الجيش والطبقة السياسية، باعطاء الانطباع عن عودة ولادة "مطامع" تركية في المحيط... ومن جهة ثانية بسبب "خيبات القرن العشرين" المتولدة عن قناعة عميقة لدى جزء واسع وربما الاوسع من النخب السياسية والثقافية والاقتصادية التركية بان "العرب حصان خاسر"... بنتيجة فشلهم الذريع التنموي والاقتصادي والسياسي.

الا ان التطورات تؤكد مرة جديدة ولادة "النموذج التركي" رغما عن... الاتراك! وتشاء "الاقدار" ان يساهم انبعاث التيار "الاسلامي الديموقراطي" في دفع تبلور هذا النموذج... الذي سيحوّله ازدياد انخراط الحركات الاسلامية الاصولية في العملية الديموقراطية، الى حاجة اكبر. فلا نموذج – في الوعي الثقافي السياسي – بدون وعي الحاجة اليه. و"حماس" التي تبدو منذ ولادتها اقرب الى خطاب راديكالي – ايراني، ستجد نفسها في السلطة من الآن وصاعدا اقرب الى – بل باحثة عن – خطاب تركي "اسلامي"!

... كالعادة تمر تحولات بهذه الاهمية في المنطقة دون اي نقاش في اوساط النخب العربية حولها، حتى لو عنى التحول هنا او هناك انقلابا في المفاهيم او النظرة الى الموضوع المطروح.

... و"النموذج التركي" الذي بدأ الاعتراف به لم يطرح اي نقاش لدى الذين كانوا يصنفون التجربة التركية في منزلة اخرى...

وكم من امثلة على التحول... الذي لا يواكبه نقاش. أليس هذا التقليد غير الديموقراطي ثقافيا، هو ايضا احد اسباب سقوط النخب "العلمانية" من مصر... الى بغداد؟

المفارقة الكبيرة التي ستؤكد تجذر "النموذج التركي"... الذي يبدو الآن جزء اساسي من وهجه مرتبطا بوجود حكومة نوع ما من "الاسلاميين" في انقرة... هي مجيء حكومة ذات يوم في المستقبل، لا يبدو قريبا، من لون ايديولوجي مختلف عن "الاسلاميين"...

هذه هي الديموقراطية... بل هذه هي قوة "النموذج" حين يصدّر نفسه ايا يكن الفائز في صناديق الاقتراع.