الضجة الكبرى المثارة اليوم على خلفية نتائج الانتخابات الفلسطينية، ترمي كثيراً الى أبعد من حدود التخوفات التي تستثيرها قوى دولية الى جانب اسرائيل، جراء فوز «حماس» ودخولها أروقة النظام السياسي الفلسطيني، في محاولة لتصوير الأمر وكأن الحركة ستقلب المشهد الوطني الفلسطيني رأساً على عقب، متناسين ان «حماس» باتت جزءاً من وضع فلسطيني محكوم بالتوافق الوطني والتشارك البرنامجي سياسياً في نطاق المهمات الكفاحية الراهنة والمستقبلية، وهو ما لم يكن في إمكان «فتح» سابقاً، ولا «حماس» حالياً وحتى في السنوات الأربع المقبلة، القفز على حقائقها ومعطياتها.

فالضجة المثارة لا تستهدف «حماس» وحدها، بهدف الحد من طموحها في التأثير في رسم ملامح المشهد الفلسطيني، بل تستهدف تصوير الوضع الفلسطيني برمته، وكأنه يخرج فعلياً من دائرة التأثير في المجرى السياسي والكفاحي العام للقضية الوطنية الفلسطينية، بما يبرر للسياسة الأحادية الأميركية – الاسرائيلية ان تبقي على احتلالها واجهة المشهد السياسي، والتخلي عن التزاماتها في شأن الدولة الفلسطينية المفترضة، إذا صدق «وعد الدولتين»، مع انه، منذ الأيام الأولى لذلك الوعد، لم تدخر اسرائيل والولايات المتحدة وتحالفاتهما الدولية، أي جهد ممكن لتغييب الشريك الفلسطيني وضرب صدقيته.

وها هو فوز «حماس» واتجاهها الى تشكيل الحكومة، يصوّر الآن على انه دافع لتكريس غياب الشراكة، في توجه واضح لفرض السياسة الأحادية إياها، بما تعنيه من فرض وقائع على الأرض، تستبعد إمكان أي حل سياسي، منعشة الآمال الاسرائيلية بتنفيذ مخططات الحلول الديموغرافية – الأمنية، بما هي السياسة المتوافق عليها من جانب كل الأطراف الفاعلة في الخريطة الحزبية الاسرائيلية، ومعها الولايات المتحدة وبعض الأوروبيين، في تقزيم فاضح للحق الفلسطيني، واختزاله في حدود حكم ذاتي محصور بكانتونات ومعازل، باتت تتقلص يوماً بعد يوم، في سحب تدريجي للبساط من تحت أقدام الدولة العتيدة.

من هنا أهمية الدعوة التي وجهها الرئيس فلاديمير بوتين الى وفد من «حماس» لزيارة موسكو، في اختراق تكتيكي للسياسات الأميركية في إطار اللجنة الرباعية، أشادت به باريس، وامتعضت منه كل من تل أبيب وواشنطن. وفي جرأة واضحة للرئيس الروسي تحسب له في مواجهة الأحادية الأميركية، والخروج من إسارها والدخول الى الفضاء العام للسياسة في مراعاتها المصالح المشتركة مع دول العالم الأخرى، وبما يمكن حسبانه صدعاً في موقف اللجنة الرباعية من «حماس» والوضع الفلسطيني عموماً، فإن واشنطن وإن ذهبت الى احترام القرار السيادي الروسي، إلا أنها حضت موسكو على «طرح مطالب المجتمع الدولي على قادة حماس». وإن كان مفهوماً ان تطرح موسكو رؤيتها وموقفها هي، بغض النظر عن تطابقها مع رؤية واشنطن او اللجنة الرباعية، إلا ان ما لا يمكن فهمه هو موقف ذلك «المجتمع الدولي» ومطالبه، في وقت كانت مطالب واشنطن تصاغ دائماً وكأنها مطالب «المجتمع الدولي»، فيما أضحت تتكشف هذه المطالب كونها اسرائيلية بامتياز، مؤيدة أو مصاغة من جانب واشنطن. وإذ يبقى الوضع الفلسطيني موضوعاً للمزايدات الحزبية الاسرائيلية، على أبواب الانتخابات في 28 آذار (مارس) المقبل، فإن التصعيد العسكري يبقى واحداً من بنود تلك المزايدة، في إطار محاولات إرضاء الإجماع الاسرائيلي عبر التركيز، من جانب معظم الخريطة الحزبية، على موضوعة ان ليس في جعبة اسرائيل سوى حل وحيد هو الانفصال من طرف واحد، على خلفية الرؤية الديموغرافية – الأمنية، وهو الحل الذي كان بدأه شارون قبلاً بانسحابه من غزة. وهذا ما يحاول خلفاؤه الاستمرار به مع الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبرى، وعدم التخلي عن غور الأردن، لما له من أهمية استراتيجية لإسرائيل، في الحد من التواصل الجغرافي بين فلسطين والأردن مستقبلاً.

ان استكمال المشروع الوطني الفلسطيني و/أو اعادة صوغه تتطلب أولاً: خروجاً عن معايير العلاقات البطركية التي حكمت سياساته السابقة، وفي المقابل تجاوز السياسات القدرية التي يمكنها ان تترصد المسيرة الوطنية الفلسطينية في المستقبل القريب. وقطع الطريق على سياسات كهذه، عبر التشديد على الانسجام التام بين خيارات الشعب الوطنية الديموقراطية، وخيارات المقاومة/ الانتفاضة، في إطار وحدة وطنية ترص بنيان الصف الوطني وتشكل درعه وحصنه الحصين، وهي الضمانة الأقوى لحدي السلاح/ المقاومة من جهة، ولحدي السياسة وثوابتها الوطنية في مقاربتها التكتيكية والاستراتيجية على حد سواء من جهة أخرى، في ظل الحفاظ على النظام السياسي وتطويره ما أمكن في الداخل، والاحتفاظ بالأطر المؤسسة والمؤسساتية لمنظمة التحرير في الخارج. والاحتكام في كل ذلك الى قانون أساس عماده الاجماع الوطني والشعبي، المحصّن بالتشريعات والمؤسسات الوطنية وفي مقدمها القضائية، وعدم تغوّل أي قوة سياسية وقطع دابر التدخلات وفوضى السلاح ونزعات التمرد والانقلاب والانفلات في الوضع الوطني.

وإذا كان بعضهم نسي أو تناسى، في غمرة النشوة أو الإحباط، ان الوضع الفلسطيني ما زال حتى اللحظة، يتمحور على موضوعات الصراع ذاتها ما قبل أوسلو وما بعدها، وأن القضية الوطنية ما زالت تخضع لقانون ثورات التحرر الوطني من الاحتلال الأجنبي، وليس التنازع معه على صلاحيات هنا أو هناك، فمن الخطيئة أيضاً اختزال هذا الوضع داخلياً والهبوط به الى مستوى التنازع والاختلاف في شأن تشكيلة حكومية بين أطراف الوضع الوطني، وبما يتجاوز حال اختراق الإجماع الشعبي الى الإضرار به في شكل أو آخر. فالمشروع الوطني الفلسطيني، من قبل ومن بعد، ليس سائلاً بما يكفي أو بما يؤهله لأن يصب في أوانٍ مستطرقة من صنع اسرائيل أو حماتها الدوليين، بل ينبغي له أن يخضع فقط لشروط التوجهات الوطنية الفلسطينية ذاتها، في إجماعها الوطني العام وتوافقها السياسي على استهدافات المرحلة واستحقاقاتها، بعيداً من المغالاة والتطرف أو السيولة والسهولة في تمييع الهدف الوطني واختزاله أو تجزئته.

وعلى هذا... فأمام الحكومة الفلسطينية المقبلة مهمتان رئيستان: أولاهما: إعادة ترتيب البيت الوطني من الداخل، وتلك مهمة من شقين: داخلي وهو ما يقع تحت ولاية الحكومة والسلطة، وخارجي (أي الشتات) وهو ما يقع تحت رقابة ولاية منظمة التحرير، من دون أن يعني ذلك انفصالاً بين شقي الرحى، بل ان تكامل مهمات الداخل والخارج في ارتباطهما الجدلي إنما يعني رفض ما فرضته اتفاقات أوسلو من حال عزل قسرية لقوى الشعب الفلسطيني بين داخل وخارج، وما حاولته من فك عرى العلاقة المقدسة بين جناحي هذا الشعب.

وثانيتهما: مواجهة تحديات الوضع الجديد الناشئ ما بعد الانتخابات، على صعيد اعادة ترتيب العلاقات وتفعيلها مع قوى المجتمع العربي والدولي، بما يخلخل جبهة القوى المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني، وهذا يتطلب تضافر جهود كل قوى الكفاح الوطني في الداخل وفي الخارج، وبما يضمن استعادة الالتفاف حول منظمة التحرير، وإعادة إحياء مؤسساتها، وإطلاق فعالياتها في مواجهة الشروط والضغوط التي تحاول تصوير الوضع الفلسطيني، وكأنه بات قاصراً عن تلبية مهمات اللحظة، من دون الاستناد الى قوى دفع خارجية، لا تصب كلها في مصلحته، بل ان بعضها يعمل لمصلحة الاحتلال.

الوضع الفلسطيني إذاً مشرع على الاحتمالات كافة، أهمها وأخطرها ما يمكن ان تقرره الانتخابات الاسرائيلية مدعومة بوعد تحقيق المصلحة الاسرائيلية أولاً، ووعيد تجاهل الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، فبعد ان تكشّف «وعد الديموقراطية» الغربي عن نفاق فاضح، الى أين يمكن ان يقود «وعد الدولتين»؟

من الواضح ان كل ما صدر عن الولايات المتحدة ويصدر في هذه المنطقة، خصوصاً ازاء القضية الفلسطينية، لا يعدو كونه الرؤية الإدارية إياها، التي لطالما نظرت بالعطف والانحياز الأعمى لإسرائيل ولأهدافها. حتى القرارات الملزمة الصادرة عن مجلس الأمن لم تلحظ حتى الآن تطبيقات عملية لحقوق الشعب الفلسطيني، فلا وعد التقسيم تحقق، وان تحقق في ما بعد وعد بلفور، ولا القرارات الصادرة بعد حربي العام 1967 و1973 تحققت، إما لأن الارادة الدولية ارتهنت على الدوام، وهي الآن رهينة الإدارة الأميركية ونزقها الامبراطوري، وإما لأن القرارات إياها «تقادم عليها الزمن»! لتضحي رؤية الرئيس الأميركي وخريطته للطريق نحو وعد الدولتين هي الأخرى، غائمة وضائعة بين تلافيف الخريطة الشارونية، وسيبقى الوضع كذلك طالما ان اسرائيل ترفض التنازل عن مستوطناتها في فلسطين الشرقية، وهي لا تريد التسوية أساساً إلا لتحقق من خلالها ما تريد هي، لا ما يفرضه منطوق التسوية المتفاوض عليها. وما تريده هي لا يرقى الى مستوى مفهوم التسوية إطلاقاً، لا الممكنة الآن ولا العادلة في مستقبل قريب أو بعيد.