تعرض ويتعرض كاتب هذه المقالة ، وفي هذه المرحلة القلقة من حياة النظام السوري الراهن ، تلك الحياة التي قاربت الجيل الكامل (والذي هو بموجب عبد الحمن بن خلدون أربعون عاما )، إلى عدد من التساؤلات عن رأيه فيما يجري في دمشق وحولها ، وإلى م ( بالفتح) سينتهي بنا / ببلدنا المطاف ؟ . ورغم أن بعض هذه التساؤلات لم يكن بريئا ، فإن الكاتب كان لايتوقف عند هذا الأمر ، ويقول كل ماعنده بصراحة ووضوح ، وهو ماسيحاول القيام به في هذه المقالة ، التي سيغلب عليها الطابع المنهجي ، ولكن وفق المفهوم الخاص بالكاتب .

تقوم وسائل الإعلام العربية ، ولا سيما الفضائية منها ــ وإن على درجات متفاوتة ــ بتضليل القارئ والسامع والمشاهد العربي وليس تنويره ، أو بتعبير آخر إخفاء الحقائق عنه ، وليس كشفها له ، وتبدو هذه النقيصة الإعلامية بارزة للعيان عندما يتعلق الأمر بالجانب السياسي المحلي منه أو العربي أو الدولي . إن السبب الكامن وراء هذه الخصيصة للإعلام العربي الراهن ، هو القاعدة الشعبية المنطقية التي تقول " إن من يأكل من خبز السلطان لابد وأن يضرب بسيفه " ، ولا أراني بحاجة إلى توضيح أن الغالبية الساحقة من الجماهير العربية ، ومن القوى السياسية النظيفة والنزيهة الممثلة لهذه الغالبية والمنبثقة عنها ،إنما تعيش عمليا على خط الفقر زيادة أو نقصانا ، وبالتالي فإنه قد لايمكنها شراء الجريدة اليومية ، فما بالك بشراء الآلات التي تطبعها ، وبقية مستلزمات إخراجها ، وما بالك بوسائل الإعلام المليونية الأخرى التي لايستطيع امتلاكها وتشغيلها سوى الدول الغنية ، وفي بعض الحالات الأشخاص الأثرياء .

إن مايرغب الكاتب قوله هنا ، أنه إضافة إلى التعقيد والجمود السياسي والإجتماعي والإقتصادي والثقافي في الوضع العربي عامة والسوري خاصة ، فإن الإعلام العربي والسوري ، إنما يزيد طين هذه الإشكالية بلّة ، وبالتالي فهو لايساعد على أن يكون المسؤول في كثير من الأحيان بأعلم من السائل .

تتداخل في الأحداث الجارية على الساحة العربية عامة وفي القطر العربي السوري خاصة ــ الذي هو موضوع هذه المقالة ــ الأسباب مع النتائج بصورة يصعب معها معرفة سواء ماجرى ويجري أو ماسيجري في دمشق . فالظواهر الإجتماعية لاتأتي من العدم ، وإنما هي

نتيجة لسبب ما أو لجملة أسباب ، منها ماهو رئيسي وجوهري ومنها ماهو ثانوي ، والتي ( أي النتيجة ) سرعان ما تتحول بدورها إلى سبب جديد لنتيجة جديدة ( جدلية السبب والنتيجة ) . ويتمثل الدور الأساسي للباحث الإجتماعي ولعالم الإجتماع هنا في سبرغور الظاهرة الإجتماعية المعنية ( ماذا جرى ويجري وسيجري في دمشق مثلا ) للوقوف على السلسلة السببية ، والتمييز بين ماهو رئيسي وما هو ثانوي في هذه السلسلة . إن اختلاط الحابل بالنابل في دمشق ، والذي يتجسد اليوم ، بالتداخل بين العوامل الداخلية والخارجية ، وبين الاستراتيجية والتكتيك ، وبين النظرية والممارسة ، وبين القول والفعل ( أسمع كلامك يعجبني أشوف فعالك أستعجب ) ، وبين الصدق والكذب ، وبين الأب والإبن ، وبين الحزب والطائفة ، وبين الياقات البيضاء والزرقا ء والكاكي ، وبين النحر والانتحار ، وبين المقاومة والإرهاب ، وبين الديمقراطية والديكتاتورية ، ...الخ ، نقول إن هذا التداخل والتشابك إنما يجعل طريق الباحث السوسيولوجي النزيه والجاد محفوفا بالمخاطر والأشواك ، وإشارات الإستفهام بل وربما المسائلة ( القانونية !! ) التي قد تقوده إلى السجن ، كما هي الحال مع الدكتور عارف دليلة و من معه من مناضلي ربيع دمشق ( العشرة الأفاضل )، وكما قد تكون عليه الحال مع نشطاء إعلان دمشق في مقبل الأيام .

وإذا ماتوقفنا قليلا عند الوضع الحالي في سوريا ( والتي أطلق عليها سماحة الشيخ حسن نصر الله " سورية الأسد " ) ، فإن السؤال الي يطرح نفسه هنا بوضوح ودونما التباس : هل إن مانحن فيه الآن في سورية ، من ذلّ وهوان وانكسار وانكشاف ، والتحول المؤسف من دولة عربية المحتد ، وحدوية الهوى ، ديمقراطية التوجه ، فعالة ومؤثرة ، إلى دولة وراثية ، دولة للصمت الذي لا يقطعه سوى التصفيق الحاد ، والردح المعيب ، ونعيق بالروح بالدم ... ، وهدير الطائرات بين دمشق وفيينا ، وهي تنقل من سمموا العلاقات القومية والأخوية بين سورية ولبنان للمثول أما لجنةالتحقيق الدولية ، ونداء الآباء والأمهات الذين تتعانق أصواتهم ودموعهم عبر الأسلاك الشائكة في مدينة القنيطرة عاصمة هضبة الجولان " السليب " !! ، نقول : هل إن كل هذا ( وغيره الكثير ) هو نتيجة لهيمنة فئة عسكرية معروفة

على السلطة في دمشق ، أم أن هذا الذي وصلنا إليه بات يمثل الزاد ( السبب ) الذي تتغذى عليه ومنه هذه الفئة، وهو مايفسر ولوغها

في غيها والذي بدأ بتغييب الشعب ، وانتهى بالتنازل عن لواء الإسكندرون ، وبالسكوت على احتلال الجولان ، مرورا بنقيصة الإشتراك في الحرب على العراق إلى جانب أعداء العروبة والإسلام في حفر الباطن . ناهيك عن النقائص والخطايا الأخرى ، التي لاتمثل مذابح حماه

وحلب وجسر الشغور ، وكذلك القانون 49 لعام 1980 السئ الذكر ، سوى مجرد حلقات في سلسلة الإرتكابات التي يختلط فيها السبب مع النتيجة ، والتي تسمح للمعارضة وللموالاة بأن " يغني كل على ليلاه " .

إن الإختلاط بين السبب والنتيجة هنا يتمثل أساسا ، في التداخل بين الظاهر والباطن في سياسة النظام ، تلك السياسة التي سمحت للأب وهي تسمح الآن للإبن ، وبالتالي للنظام الحالي في دمشق ، بأن يرفع بإحدى يديه ، ومن فوق الطاولة السيف والعصا ضد الولايات المتحدة وإسرائيل ، في الوقت الذي يعتقد الكثيرون أنه يقدم لهما بيده الأخرى ومن تحت الطاولة باقات السلام والإستسلام !! . ترى ما ومن هو السبب ، وما ومن هي / هو النتيجة في هذه اللعبة القذرة العابرة الحدود والقارات ، تلك اللعبة التي سبق لبوش الأب والأسد الأب أن لعباها

ويقوم ابنيهما الآن بمتابعة هذه اللعبة ، وفق الشروط التي حددها لهما الأبوين .

إن الحديث عن لعبة عابرة للقارات ، يحيلنا عمليا إلى مايعرف منهجيا بالعلاقة الجدلية بين الداخل والخارج ، من حيث أن العالم بات

عبارة عن قرية واحدة ، وذلك في ظل شبكات الإتصال والإعلام ، وفي ظل عالم الكومبيوتر والإنترنت ، وبات بالتالي التأثير المتبادل بين الأمم والدول والشعوب أمرا واقعا لامفر ولا مهرب منه . إن ماينبغي الإشارة إليه هنا ، هو أن الطرفين الداخلين في علاقة تبادلية بينهما

( كما هي الحال بين الأنظمة العربية الراهنة والولايات المتحدة الأمريكية ) لايشترط أن يكونا متساويين في وزنهما السياسي و/ أو العسكري و/ أو الاقتصادي و/ أو الثقافي و/ او الديموغرافي و/ أو الجغرافي ،الأمر الذي لابد وأن ينعكس على العلاقة الجدلية بينهما ، بما يحولها من علاقة ذات اتجاهين ( أخذ وعطاء ) إلى علاقة ذات اتجاه واحد يكون فيها المرسل هو القوي والمتلقي هو الضعيف . وعادة مايتم إخفاء هذه العلاقة غير المتوازنة من قبل الطرفين باللجوء إلى الحيل اللفظية ، وإلى عرض العضلات الشكلي والخالي من أي مضمون عملي وواقعي بالنسبة للجانب الضعيف ( العنتريات التي ماقتلت ذبابة : نزار ) ، إضافة إلى القيام ببعض الإجراءات التنموية المظهرية التي تصب في طاحونة الفئات الاجتماعية المرتبطة بالخارج ، ومن هذه الطاحونة ( الوطنية !! ) تنساب إلى طاحونة الطرف الخارجي القوي ( أمريكا ) .

وفي تطبيقنا لما أوردناه أعلاه حول العلاقة الجدلية بين الداخل والخارج ، على مايجري في سورية هذه الأيام ، وبالذات منذ الإحتلال

الإنجلو ـ أمريكي للعراق الشقيق ، فإن الإجابة العلمية الصحيحة هنا ، تبقى ـ من وجهة نظرنا ـ رهنا بمعرفة كافة الأبعاد الحقيقية

للعلاقة من جهة بين النظامين السوري والإيراني ، ومن جهة أخرى بين كل من هذين النظامين والولايات المتحدة الأمريكية ، وبدون

هذه المعرفة لايمكن للباحث أو المهتم أن يقدم رأيا سليما بعيدا عن المزايدة وعن أن يهرف بما لايعرف .

لقد سمع الكاتب بام عينيه وأذنيه رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية السابق محمد خاتمي يقول مامعناه ، إن أمركا تعرف أنها بدون

المساعدة الإيرانية لها ماكانت لتقدر على احتلال أفغانستان والعراق ( !! ) ، وسمع الكاتب من جهة أخرى ، و أيضا بأم عينيه وأذنيه الرئيس الحالي السيد محمود أحمدي نجاد يؤكد على ضرورة مسح إسرائيل من على الخارطة ، وعلى عدم صحة أسطورة الهوليكوست .

إننا هنا أمام موقفين متناقضين لنفس الجهة ، فأيهما نصدق ، وأيهما نكذب ؟ ، أم أن الأمر يدخل في باب التكتيك المشروع ، من أجل كسب الوقت للوصول إلى القنبلة النووية الإسلامية الضرورية لتحقيق التوازن الإستراتيجي بين إسرائيل وإيران ، وبالتالي العرب والمسلمين .

إن الكاتب لايملك هنا إلاّ أن يرجئ رأيه حول حقيقة العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية من اليوم إلى الغد ، حيث ( ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلا / ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد ) .

أما بصدد النظام السوري ، فليس هناك من لايعرف ، أن القوات السورية قد دخلت لبنا ن عام 1976 بموافقة أمريكية وإسرائيلية !!، وأن هضبة الجولان المحتل تنعم بالهدوء غير الحذر منذ 1973 وحتى يومنا هذا !! ، وأن أمريكا سكتت على مذبحة حماه أسبوعين كاملين ،

وأن تعاون النظام السوري الأمني مع وكالة الإستخبارات الإمريكية ( CIA ) كان موضع إشادة مستمرة من قبل الولايات المتحدة

وأن العدو الرئيسي لكل من البوشين والأسدين كان صدام حسين ، وبما أن " عدو عدوي صديقي " ، فإن التعاون السياسي والأمني بين

النظام السوري والولايات المتحدة الأمريكية لإسقاط نظام صدام حسين في العراق الشقيق كان من قبيل تحصيل الحاصل .

ومن جهة أخرى ، فإنه ليس هناك من يجهل الآن أن النظام السوري في حالة اشتباك مقنن ( خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء ) مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن سلاحه الفعال في هذا الإشتباك كان وما يزال تخويف الولايات المتحدة من البديل الذي قد يكون " الإخوان المسلمين " اللذين هم أعداء الطرفين ، وأيضا تذكيرها المستمر ، بدوره الكبير في القضاء على " الإرهاب " في سورية عبر القانون 49

لعام 1980 ، واستعداده الدائم للتعاون معها ( أمريكا ) في هذا المجال ، سواء داخل سوريا أو خارجها !!! . إن الكاتب لايعرف ولا يعلم

مدى أبعاد وجدية هذا الإشتباك السياسي بين نظامي واشنطن ودمشق ، وخاصة أن واشنطن تقف وراء كل القرارات الدولية التي صدرت ضد النظام السوري مؤخرا ، وبالذات القرارين 1559 و1336 ، وكذلك وراء دخول هذا النظام في دائرة الإتهام في قضية الإغتيالات السياسية التي طالت عددا من الرموز الوطنية اللبنانية المعارضة للهيمنة السورية على الشؤون اللبنانية ، ولا سيما رئيس وزراء لبنان السابق المرحوم رفيق الحريري ، والأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني الرفيق جورج حاوي ، والتي ماتزال تنتظر تقرير اللجنة

الدولية النهائي في هذا الموضوع .

إن مجموعة هذه الوقائع المتناقضة ، إنما تضع الباحث أمام إشكالية منهجية تتمثل في غياب المعالم البارزة والمؤكدة لحقيقة العلاقة بين النظامين السوري والأمريكي في هذه المرحلة ، تلك الحقيقة التي لايرى المرء منها سوى نصفها المعروض فوق الطاولة ، بينما يغيب عنه نصفها الآخر الذي يخفيه الطرفان معا (وبالإتفاق ربما) تحت الطاولة ، الأمر الذي معه لانملك ــ هنا أيضا ــ سوى أن نرجئ الإجابة والموقف حول هذا الموضوع من اليوم إلى الغد " وإن غدا لناظره قريب " ، أو بالتعبير الشعبي " غدا تذوب الثلجة وتظهر المرجة " .

يقتضي عنوان هذه المقالة ( ويسألونك عن دمشق ؟) التوقف عند الإشكالية التي طرحتها تصريحات وتلميحات السيد عبد الحليم خدام

التي بما أحدثته من ردود فعل سورية وإعلامية صارخة كادت تحل ( بالضم ) صاحبها محل المتنبي باعتباره" مالئ الدنيا وشاغل الناس "

ويرى الكاتب هنا ضرورة أن يشير إلى معرفته الجيدة بالسيد خدام ، ولكنها معرفة تعود إلى ماقبل مغادرته (اي الكاتب) سورية عام 1974

وكغيره من المواطنين السوريين ، المقيمين في الخارج ، كان الكاتب يسمع ويقرأ ، عن حالة الفساد العامة التي عليها النظام السوري ، ولاسيما في المجال الإقتصادي ، والتي شملت هرم السلطة من هامة رأسه حتى أخمص قدمه ، ومن الطبيعي ألا يكون عبد الحليم خدام استثناء في هذا المجال ، أي أنه و بالإستنتاج المنطقي لابد وان يكون داخلا في خانة الفساد السياسي ( التعاون مع نظام ديكتاتوري عسكري وطائفي أكثر من ثلث قرن من الزمان ) ، والفساد الإقتصادي الذي لايختلف عليه لاالقاصي ولا الداني . ناهيك عن الفساد القيمي والخلقي الذي سمح له بالوقوع في فخ الفساد السياسي والإقتصادي . هذا مع العلم أن الكاتب قد قرأ البيان الذي رد فيه نجلا السيد خدام

على ماأسمياه " مسرحية مجلس الشعب " والذي برءا فيه أباهما وبرءا نفسيهما من كل التهم الموجهة لهم بالفساد المالي ، وأيضا من تهمة طمر النفايات السامة المعروفة في مكان ما من التراب الوطني . وللأمانة فإن دفاعهما بشان النفايات السامة كان قويا ومقنعا إلى حد بعيد .

إن ماأورده عبد الحليم خدام من تهم سياسية وإقتصادية للنظام السوري ، الذي كان هو نفسه جزءا أساسيا منه وفيه إلى أمد قريب ، إنما تمثل الشهادة التي ينطبق عليها قوله تعالى " وشهد شاهد من أهلها " ، وكان جدير بمجلس الشعب ، كي لاتنطبق عليه صفة " مجلس

الردح " أن يتوقف عند التهم المحددة والكبيرة التي وجهها خدام ، النائب السابق لرئيس الجمهورية ، ويشكل لجانا للتحقيق في هذه التهم التي مسّت النظام من ألفه إلى يائه وبمن فيهم خدام نفسه .

ويرغب الكاتب أن يشير حول هذه المسالة ، إلى أن ترحيب البعض بانضمام عبد الحليم خدام إلى جهة المعارضة لنظام دمشق ، إنما هو ترحيب مقبول ، ولكن شرعيته تظل رهنا بمطالبة المعني بتقديم كشف حساب علني عن وضعه المالي ، وبيان ماله وما عليه ، وعندها فقط يصبح الترحيب به ليس مقبولا فقط وإنما مشروع أيضا . إن خروج عبد الحليم خدام من عباءة النظام في دمشق اليوم ، إنما هو خطوة

إيجابية على الطريق الصحيح ، ولكن لابد من استكمالها غدا ، بتطهير نفسه من الأدران التي لحقت به وبأسرته طوال تعاونه مع نظام

نكتفي هنا نحن بما قاله هو عنه . وبانتظار هذا الغد الذي نرجو أن يكون قريبا ، لانملك إلاّ أن نرحب بضيف المعارضة ، أبي جمال ، الذي

نأمل من أصدقاء آخرين (يعرفون أنفسهم) أن يحذوا حذوه ، بعد أن بدأت أسهمهم في البورصة السياسية تترنح بسبب دفاعهم غير المبرر عن اخطاء غيرهم ، وتشكيلهم الغطاء الخلقي الذي يحتاج إليه النظام ، قبل وبعد عبد الحليم خدام ، و خاصة بعد أن فقدت تيتانك هذا النظام توازنها ، وبدأت تجتاحها أمواج التغيير الديمقراطي العاتية، وبات مصيرها في مهب الريح .

لقد لفت نظر الكاتب أن عددا من المثقفين السوريين الذين ينتمون الى " المعارضة " ، يماهون في كتاباتهم بين النظام السوري وبين حزب البعث العربي الإشتراكي ، قافزين بذلك فوق عدد من الحقائق التي أبرزها :

> أن قواعد الحزب مافتأت تعيش منذ حل الحزب عام 1958 ، وإعادة إحيائه بين عامي 1961 و1963 صراعا داخليا مريرا ، من جهة بين اليمين واليسار ، ومن جهة ثانية بين المدنيين والعسكريين ، ومن جهة ثالثة بين الروابط الأيديولوجية والعقائدية للعضو الحزبي ، وبين روابطه القبلية والطا ئفية والجهوية ، والتي تتناقض كليا مع مبادئ وقيم الحزب . علما أن الكاتب يرى في هذا الصراع الحزبي ، صراعا بين الذات ( الانتماء العقائدي / الأفقي ) والموضوع ( الإنتماءات القبلية والطائفية والجهوية / الإنتماء العمودي ) ، وهو يحاكي في بعض صوره الصراع الذي شهده التاريخ المبكر للإسلام ، حيث شهدت مرحلة الخلفاء الراشدين انتصار الذات على الموضوع ، بينما سجل استيلاء معاوية على السلطة في دمشق انتصار الموضوع على الذات ، ولكن الإسلام بقي هو الإسلام في الحالتين .

> أن حافظ الأسد قد زج بأعضاء القيادتين القومية والقطرية ( حركة 23 شباط 1966 ) في السجن عام 1970 ، وتناساهم المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان العربية والعالمية طيلة ربع قرن ، حيث استشهد الرفيقان نور الدين الأتاسي ( الأمين العام للحزب ورئيس الجمهورية ) وصلاح جديد ( الأمين العام المساعد لشؤون القطر السوري ) في السجن ، وحيث أن من أطلق سراحهم من أعضاء القيادتين

مايزال محروما من جواز السفر وبالتالي من مغادرة البلاد ، فكأنهم خرجوا من السجن الصغير إلى السجن الكبير .

> أن ارتداء عباءة حزب البعث من قبل النظام السوري ( نظام سورية الأسد !! ) ، إن هو إلا ورقة التوت التي أراد النظام أن يخفي تحتها عورته الطائفية والعسكرتارية . لقد كان عدد الأعضاء العاملين في الحزب عام 1966 بحدود الأربعة آلاف ، وهم الآن بالملايين ( ماشاء الله !! ) ، إنه غثاء السيل الذي لايسمن ولايغني ، وبالتالي فإنه من الظلم لهذا الحزب ، أن نسبغ عليه صفة الحزب الحاكم ( المادة الثامنة من الدستور ) ، علما أنه حزب محكوم ، مثله في ذلك مثل مايسمى بالجبهة التقدمية ، بل ومثل الشعب السوري كله المغلوب على أمره .

> أن من قام بحل حزب البعث في العراق هو الحاكم العسكري للعراق " بريمر " ، والذي أسس لجنة اجتثاث البعث وأوكل أمرها إلى أحد عملاء المخابرات المركزية الأمريكية ( أحمد الجلبي ) أيضا هو " بريمر " ، فهل يرضى بعض الإخوة من مثقفي المعارضة بتياراتها الرئيسية الثلاث ( الإسلامين والليبرالين والماركسيين ) لأنفسهم هذا الدور البريمري . إن حزب البعث العربي الإشتراكي كما نعرفه وكما نفهمه وكما أراد له مؤسسوه أن يكون هو بريء من هذا النظام الطائفي في دمشق ، براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام .

> إن حزب البعث في القطر العراقي بجناحيه العسكري والمدني ، يقف اليوم في طليعة المقاومة العراقية الباسلة للإحتلال الإنجلوـ أمريكي ، تلك المقاومة التي حفظت وتحفظ للعرب جميعا ومنهم الإخوة الذين يماهون بين النظام السوري الراهن وحزب البعث كرامتهم في هذا الزمن العربي الرديء . إن حزب البعث في القطر السوري ، لن يكون ـ على مانظن ونأمل ـ بأقل من شقيقه العراقي دفاعا عن الوطن والأمة عندما تدق ساعة " حي على الكفاح " .

بقي أن نقول أن المعارضة الوطنية اللبنانية ، التي انبثقت عن اغتيال الشهيد رفيق الحريري ، كثيرا ماتقع بدورها بنفس مطب الخلل المنهجي عندما تماهي هي أيضا بين " سوريا " الشعب والدولة ، وبين النظام المتهم باغتيال المرحوم الحريري . إن الشعب السوري أيها الرفاق اللبنانيون هو شعب مضطهد مثلكم من قبل نفس النظام ، ونفس الأشخاص ، وهو يشارككم نفس الآمال والآلام ، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا التماهي بين الشعبين العربيين في خطابكم السياسي والإعلامي . إن خسارتكم في رفيق الحريري وسمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وغيرهم من الرموز الوطنية اللبنانية ، هي خسارة لنا أيضا ، ولابد أن تتكاتف جهودنا معا لدحر هذا الإرهاب المنظم أيا ً كان مصدره