سامي حسن (كنعان أونلاين)

أجمع العديد من المحللين لنتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية على أن الناخب الفلسطيني قد صوت بشكل أساسي لصالح برنامج المقاومة وضد الفساد وهذا ما يفسر حصول حركة حماس التي رفعت لواء مقاومة الاحتلال والفساد على 78 مقعداً مقابل 45 مقعداً لحركة فتح شريكة اتفاق أوسلو والمؤيدة للمفاوضات وخارطة الطريق والمعروف عن العديد من قياداتها تورطهم بالفساد.

وفي نفس السياق يمكن إرجاع النتائج الهزيلة لليسار (أعتقد أن عدم توحد اليسار لعب دوراً هامشياً في النتائج بدليل أن بعض الائتلافات التي تشكلت من عدة قوى يسارية كقائمة البديل أو فلسطيين المستقللة لم تحصل على أكثر من مقعدين) إلى عزوف بعض القوى فيه عن ممارسة بعض أشكال المقاومة أقصد تحديداً المقاومة المسلحة، مع الاشارة إلى أن التركيز على هذا الشكل حصراً (عسكرة الانتفاضة) أفقد الانتفاضة طابعها الشعبي، وأخرج أعداد كبيرة وهامة من مكونات وفئات الشعب الفلسطيني كالنساء مثلاً من دائرة المشاركة الفعالة فيها، وذلك بخلاف الانتفاضة الشعبية الأولى- وتلوث البعض منه بالفساد أيضاً.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لم يصوت الناخبون للجبهة الشعبية على سبيل المثال حيث حصلت على ثلاث مقاعد فقط، بالرغم من أن برنامجها هو المقاومة بكل أشكالها وقد قدمت تضحيات كثيرة حيث أستشهد أمينها العام أبو علي مصطفى ولديها حوالي 800 معتقل في سجون الاحتلال بينهم الأمين العام المساعد للجبهة عبد الرحيم ملوح إضافة إلى أن أمينها العام أحمد سعدات يقبع في سجون السلطة الفلسطينية على خلفية عملية نوعية هي تصفية وزير السياحة الاسرائيلي، وقد عرف عن الجبهة وقياداتها عدم تلوثها بالفساد؟

وللاجابة على السؤال لا بد إذاً من البحث بعيداً عن موضوع المقاومة والفساد، الأمر الذي يتطلب من أصحاب التجربة أقصد الجبهة الشعبية القراءة النقدية الجريئة والمسؤولة لبرنامج الجبهة ولممارساتها السياسية ليس خلال الانتفاضة الأخيرة وحسب بل قبل ذلك بكثير وتحديداً منذ تبنيها للبرنامج المرحلي؟

إن الممارسات السياسية والمواقف الخاطئة في محطات تاريخية هامة هنا وهناك لا يمكن أن تجد تفسيرها إلا في إطار فهم جدلية العلاقة بين البرنامج والبنية وانعكاسات ذلك في الممارسة السياسية والتجربة العملية، إن هذا الفهم هو وحده الكفيل بتفسير ما آلت إليه الجبهة الشعبية ـ اليسار عموماً ـ وعدم التناسب بين التضحيات التي قدمتها والنتائج التى حصلت عليها؟ ففشل الجبهة في إنجاز المهمة التي طرحتها على نفسها في التحول إلى حزب ماركسي له هويته الأيديولوجية الواضحة وبرنامجه الطبقي الواضح الذي يمكن من صياغة البرنامج الوطني بشكل صحيح، قد عكس نفسه في فهم وصياغة استراتيجية الصراع مع المشروع الصهيوني وفي تحديد طبيعة العلاقة مع القوى الفلسطينية وكذلك العربية والدولية والذي ترجم على الأرض بتحالفات- لا تدل على أن الجبهة قد استوعبت قانون وحدة وصراع الأضداد- وممارسسات سياسية ومواقف خاطئة أضرت بمصداقيتها. ولتوضيح ما سبق أورد بعض الأمثلة:

- بينما كان الفلسطيني المسحوق ابن بيت الصفيح في مخيمات الضفة وغزة ينظر بقرف وحسرة إلى قصور المسؤولين في السلطة ويتحدث بوضوح عن فسادهم وسرقاتهم ولامبالاتهم اتجاه ما يعانيه، كانت الجبهة تتحدث بعمومية عن الفساد مثلما يتحدث عنه رموز السلطة الفاسدين أنفسهم، وتدعو مثلهم إلى ضرورة محاربة الفساد والمحاسبة دون أن تضع لذلك برنامجاً عملياً وكفاحياً يميزها عن غيرها؟

كان على الجبهة أن تجعل معركة محاربة الفساد معركتها فتكشف حقيقة هذه الظاهرة وأسبابها وجذورها الطبقية وتسمي الفاسدسن بأسمائهم في كل مكان، في الشارع وفي المهرجانات والبيانات والصحف والفضائيات، بذلك فقط كان يمكن للجمهور الفلسطيني أن يرى في الجبهة معبراً عنه وعن مصالحه ومعاناته وهمومه.

- لقد أظهرت الانتفاضة الفلسطينية ضعف أداء الفلسطينيين في الشتات في إسنادها بشكل فعال ونوعي بالرغم من كل محاولاتهم ومبادراتهم. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى شلل منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وتهميش دور فلسطينيي الشتات، الذي مورس بشكل مقصود وممنهج على مدى عشرات السنوات وتحديداً منذ قيام السلطة الفلسطينية. ولقد بدأت دعوات تفعيل وإصلاح منظمة التحرير بالظهور مع الانتفاضة، ولكنها كانت مجرد دعوات كاذبة في الهواء، واكتفت الجبهة كغيرها من القوى الفلسطينية بترديد هذه الدعوات دون كشف من يقف وراء عدم تحويلها إلى واقع ملموس، ولم تقم بأي دور حقيقي وعملي من اجل استنهاض وتفعيل دور الفلسطينيين في الشتات بالرغم من الفرصة الذهبية التي توفرت من أجل ذلك.

- لقد خلفت تصفية وزير السياحة الاسرائيلي أثراً كبيراً لدى الشعب الفلسطيني وأعطت للجبهة دعماً معنوياً لا يستهان به، وبصفقة معيبة أعتقل الأمين العام للجبهة أحمد سعدات ورفاقه على يد السلطة الفلسطينية، وبناءاً على ما سبق وبالنظر إلى الارث النضالي لأحمد سعدات المعرف جيداً لدى شعبنا فقد كان على الجبهة أن تجعل من هذه القضية قضيتها، فتكشف حقيقة هذه الصفقة وأسبابها، ولا تكف عن الحديث عنها والعمل على الأرض بخطوات عملية (على سبيل المثال تحرك المظاهرات باتجاه السجن في أريحا) من أجل إطلاق سراح المعتقلين، ولكن الجبهة اكتفت بالمطالبة والمناشدة وربما رفع العرائض من أجل إطلاق سراح المعتقلين محولة هذه القضية إلى مجرد خطأ ارتكبته السلطة وسرعان ما أصبح أمراً عادياً ومألوفاً، ويمكن سحب ضعف الأداء اتجاه المعتقلين في سجون الكيان الصهيوني أيضاً.

- في حوارات القاهرة التي تقاطرت إليها وعبر البوابة الأمنية جميع القوى الفلسطينية دون استثناء، لم نسمع إلا المديح لدور النظام المصري بالرغم من معرفة الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية لحقيقة هذا الدور. وقد كان على الجبهة أن يكون لها شرف توجيه بعض الانتقادات لهذا الدور بالحد الأدنى إن لم نقل تعريته، ولكنها لم تفعل، بل اختارت مغازلته ومجاملته حالها حال جميع القوى الفلسطينية، ويمكن سحب ذلك على الموقف من مجمل النظام الرسمي العربي؟

- للأسف يلعب المال دوراً مهماً في الحياة السياسية الفلسطينية والعربية وربما في معظم أنحاء العالم، وكان على الجبهة أن تقوم بدورها في كشف هذا الدور على الساحة الفلسطينية وتأثيره في الانتخابات التشريعية وفضح جميع القوى التي لجأت إليه دون استثناء أحد. ولكن مع الأسف أيضاً لم تتعامل الجبهة مع هذا الموضوع بالشكل المطلوب. وفي هذا السياق، ربما يجد البعض في دور المال سبباً في تفسير نتائج الانتخابات، وأعتقد أن ذلك فيه كثير من الصحة والمنطق ولكن أذكر بأن الجبهة الشعبية التي لم تكن تملك المال ولم تستغله كانت لفترات طويلة الفصيل الثاني على الساحة الفلسطينية بل ربما نافست حركة فتح صاحبة الأموال على قيادة هذه الساحة، وحتى في هذه الانتخابات فقد تقدمت الجبهة على العديد من القوائم التي امتلكت المال وحاولت استثماره.

إن كل ما سبق يؤكد معاناة الجبهة الشعبية واليسار الفلسطيني عموماً، من مرض واضح هو نقص في الحذرية وضياع للهوية. وربما يكون هذا من أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع شعبية اليسار ونزفه المستمر لكوادره؟

إن مرحلة ما بعد الانتخابات التشريعية هي مرحلة حاسمة في النضال الوطني الفلسطيني، وربما يكون التاريخ قد أعطى للجبهة ولليسار عموماً فرصة تاريخية كي يستعيد دوره ـ أسوة بيسار أمريكا اللاتينية ـ وربما ليقود الساحة الفلسطينية في المرحلة القادمة ليس في الداخل وحسب وإنما في كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، ولكن نجاحه في ذلك يتطلب منه أن يجذر برامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن يرفع عالياً بشكل واضح ومميز راياته الحمراء.