ما بين لبنان وسوريا، منذ 1920 وحتى ،2006 يمكن وضعه تحت عنوان: المقايضة. فبعد رحيل “الرجل المريض” جاء الرجل الأبيض “منتدباً” على البلدين بقرار من عصبة الأمم، لوصاية فرنسية عليهما، على إيقاع تحالف بريطاني - فرنسي (سايكس بيكو). أما موضوعه فكان احتواء العروبة في سوريا بطرد الملك فيصل من دمشق الى بغداد، وبكسر جيش العروبة المقاومة في ميسلون. وفي النتيجة، جرى تكبير جبل لبنان بمقاطعات كانت تابعة لولايات عكا وبيروت ودمشق واللاذقية.. وجرى في الوقت نفسه تصغير سوريا بتقسيمها الى دويلات. وهكذا، لولا انكسار العروبة المقاومة لما كان في إمكان الانتداب الفرنسي اصطناع دولة لبنان الكبير في 1/1/،1920 بقرار من الجنرال غورو، لا بقرار من اللبنانيين أنفسهم، المنقسمين آنداك بين انتماءين، لبناني (يعني ماروني) وعروبي (يعني اسلامي). وما حدث هو ان لبنان حافظ على كيانه الطوائفي في ظل الانتداب الفرنسي، بينما قاوم السوريون العرب تقسيمهم الى “دويلات طائفية” فغلبوا الوطنية أو القومية على الطائفية، واستقلوا، مع لبنان، عن الوصاية الفرنسية، وتوافقوا، في الاستقلال المشترك، على ان يستقل لبنان عن الاستعمار لا عن العروبة. وتجلى ذلك العقد القومي على مرحلتين: الأولى، عشية الاستقلال حين أعلن بيان حكومة الاستقلال اللبناني الأولى، برئاسة رياض الصلح، ان لبنان بلد “ذو وجه عربي” وانه لن يكون للاستعمار ثمر ولا مقر للتآمر على العروبة، بدءاً من سوريا؛ الثانية، غداة اتفاق الطائف (1989) الذي نص على ان “لبنان بلد عربي” وانه “وطن نهائي لجميع أبنائه”. والحال، سجلت العروبة المقاومة تقدماً وانتصاراً في لبنان وسوريا، تجلياً في دحر الحلف الاطلسي (1983-1984)، ودحر الاحتلال “الإسرائلي” (2000).

الى ذلك، بقيت المقايضة التاريخية بين البلدين قائمة في شراكة بين دولتي سوريا ولبنان ما برحت متعلقاتها السياسية - الأمنية والاقتصادية مستمرة حتى اليوم، كيف؟

) لا حدود مرسومة بين الدولتين، فهما في المضمر السوري نظامان متباينان لشعب واحد، لأرض واحدة، لعروبة موحدة أو اتحادية. لكن ما أضمره السوري أضمره أيضاً بعض اللبنانيين العروبيين، وعاداه علناً بعض اللبنانيين الذين ذهب بعضهم قبل الحرب وخلالها الى حد التقسيم -أي انفصال النصارى عن المسملين باعتبار ان ضم المناطق الإسلامية الى جبل لبنان وبيروت كان خطأ فرنسياً، ما جعل كميل شمعون، منذ كان سفيراً للبنان في الأمم المتحدة (1947) الى ان صار رئيساً للجمهورية (1952-1958)، يدعو الى صيغة انجلو-سكسونية، عنوانها التقسيم على غرار ما حدث في فلسطين- أو الى إخراج القوات العربية السورية وترسيم الحدود وإقامة سفارتين بين دمشق وبيروت، بوصاية أمريكية - فرنسية، تقوم مقام الدعم السوري - الإيراني للبنان العربي، المقاوم.

) لا تمثيل دبلوماسياً ولا تأشيرات عبور بين اللبنانيين والسوريين (فهما ضمناً شعب واحد)، ثم لا حواجز جمركية (الاتفاق الجمركي اللبناني - السوري ألغي من الجانب السوري سنة ،1949 درءاً للاجتياح الرأسمالي اللبناني للنظام الاقتصادي السوري القائم على الحماية والتوجيه والدعم)، ولا عملة وطنية متمايزة (استمر بنك سوريا ولبنان في إصدار العملة السورية - اللبنانية حتى إنشاء مصرف لبنان سنة 1960) وحتى لا أحزاب سياسية متمايزة (الحزب السوري القومي الاجتماعي، الحزب الشيوعي السوري - اللبناني حتى الستينات، فضلاً عن حزب البعث وحركة القوميين العرب.. إلخ).

لا أمنَ للبنان، دولة ومجتمعاً، إلا بالتفاهم مع السياسة السورية (الأمن والسياسة الخارجية)، وكلما انحاز لبنان للغرب أو لأحلافه (حلف بغداد، مثلاً) تدخل الأمن السوري فيه لمعاقبة المنحازين (الثورة الوطنية 1957-1958)؛ وفوق ذلك، كلما انحاز الحكم اللبناني علناً، تحت يافطة (الحياد بين العرب و”إسرائيل”) التي رفعها الرئيس شارل حلو بعد حرب 1967 وصعود المقاومة العربية؛ أو سراً من خلال علاقات طرفية مباشرة مع “إسرائيل” (بدأها كميل شمعون سنة 1945 مع موشي شاريت، وزير خارجية “إسرائيل”؛ وتوجها بشير الجميل وشمعون وجعجع.. بعلاقات علنية مع مناحيم بيغن والموساد والاحتلال “الإسرائيلي”).

لا استقرار للنظام السياسي السوري من دون دعم سياسي واقتصادي وإعلامي من طرف لبنان. يصح ذلك على مرحلة الانقلابات في سوريا، منذ 1948 حتى 1970. لكنه لا يصح على سوريا الأسدية المستقرة أمنياً والمصرة على الاضطلاع بدورها الإقليمي، ما دام الصراع على لبنان وسوريا هو المدخل الغربي إلى الصراع على الشرق الأوسط برمته.

هذه المقايضة اللبنانية السورية تعود على البلدين بالاستقرار كلما نجحت بامتياز وتوافق؛ وتعود عليهما بالاضطراب والفتن والاغتيالات والانقلابات، كلما أفشلت من الخارج أو من الداخل. إنها المعادلة الأصعب والأميز بين دولتين، عضوين في جامعة الدول العربية وفي الأمم المتحدة: المحلي - الإقليمي أثبت وأقوى من الدولي في نظر العروبيين؛ وبالعكس الدولي (الوصي الأمريكي - الفرنسي حالياً، ومن ضمنه “الإسرائيلي” حكماً) هو الأقوى بنظر مناوئي عروبة لبنان وسوريا، حيث بات “الاستقلال” كما يذهبُ إليه أشباح طوائف (14 آذار) يعني الانفصال الكامل عن سوريا، الرابط الوحيد بين لبنان والعالم العربي جغرافياً. وعليه كان هؤلاء “الاستقلاليون” قبل ،2005 يقولون بلسان وليد جنبلاط: “إما سوريا، وإما “إسرائيل”، وإما البحر...”. وحين كنا نسألهم: “أين لبنان في خياراتكم الاستراتيجية؟”، كانوا يضحكون منّا، فهم في السلطة بقوة دمشق، وضد تل أبيب. وها هم يبتعدون، الآن، من دمشق إلى محور تل أبيب - باريس - واشنطن، بدعوى الانفصال عن سوريا أولاً، وعن إيران ثانياً. وبالطبع هناك قوى عروبية مقاومة هي أكثرية الشعب اللبناني ترفض هذا الانحراف القومي الاستراتيجي، ولا ترى في تحالف جنبلاط - جعجع سوى انحراف معياري عن البوصلة الوطنية، وتوريط لتيار المستقبل (الحريري) في اللاعروبة، بعدما كان سنّة لبنان، شيمة شيعته، عنوان العروبة المقاومة، والمشاركة في كل نضالات العالم العربي.

وعليه لا يستطيع تيار المستقبل/ الحريري أن يمضي قدماً، مع جنبلاط - جعجع، في نقض هذه المقايضة اللبنانية - السورية، لمصلحة حلف أمريكي - فرنسي (“إسرائيلي” ضمناً)، في ظروف المقاومة العربية والإسلامية للاحتلال الأمريكي - “الإسرائيلي” في العراق وفلسطين، وفي سياق الممانعة الإيرانية لتدخل الغرب في شؤونها السيادية، ومنها حق إيران في تطوير قدراتها النووية السلمية (وحتى غير السلمية) مادامت “إسرائيل” دولة نووية معادية - ولا ترغب طهران في أن تصاب مفاعلاتها النووية بما أصيب به مفاعل تموز العراقي، الذي شكل مدخلاً إلى إسقاط النظام واحتلال العراق نفسه.

حالياً، الآفاق الصراعية في لبنان تسد آخر نوافذ الحلول السياسية المفتوحة: فلا يملك تحالف (14 آذار) أكثرية لتعديل الدستور وإقالة رئيس الجمهورية، ولا تستطيع لجنة تحقيق دولية إجبار دولة كوريا على فتح ملفاتها الأمنية، ولا تستطيع أمريكا و”إسرائيل” “تجريد” حزب الله من سلاحه، وقد جربتا ذلك ما بين 1983 و2000. وبعد التحرير، ازدادت قوة المقاومة اللبنانية المدعومة من سوريا وإيران وقوى أخرى غير معلنة. ويبقى الحل بسيطاً: العودة إلى المقايضة مع سوريا: أمن مقابل دعم سياسي!