في مثل هذا اليوم (الخميس) الثالث والعشرين من فبراير (شباط) قبل أربعين عاماً، واجه حزب البعث الحاكم في دمشق، والذي لم يكن قد بدأ الوصلة الثانية من حكمه للعراق بعد، أول انقلاب عسكري عليه من داخله، فـ«الرفاق» هم الذين أطاحوا بـ«الرفاق» هذه المرة وهم بما فعلوه دقوا أول إسفين في بنيان هذا الحزب الذي كان مؤسسوه الذين عقدوا مؤتمرهم الأول في مقهى عرنوس عام 1947 يحلمون بتوحيد الوطن العربي كله وتحرير أقطاره التي كانت لا تزال مستعمرة وتحت نير الأجنبي.
لقد أعطى ذلك الانقلاب، الذي أخذ اسماً هو: «حركة شباط»، طابع تخلص التيار اليساري من التيار اليميني في حزب البعث، لكن المناوئين الذين وصلوا الى الحكم في العراق بعد نحو عامين وصفوه بأنه حركة انشقاقية، وأنه انقلاب القطريين على القوميين، وأن الذين نفذوه عبارة عن مجموعة من المتطرفين الذين دفعتهم الرغبة في الهيمنة على السلطة الى الانقضاض على حزبهم ووضع عدد من قادته التاريخيين في السجون.

ولعل ما يؤكد أن حركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط) 1966 هذه كانت بمثابة الخطوة الأولى على طريق نهاية «البعث»، أنه لم تكن قد مضت بضعة شهور على تنفيذها حتى قام الضابط الدرزي سليم حاطوم بمحاولة انقلابية جديدة، بدأها بتمرد فاشل في جبل العرب في منطقة السويداء، وأنه لم تمض سوى نحو أربعة أعوام حتى قام الرئيس السوري السابق حافظ الأسد بحركته التصحيحية التي بدورها تعرضت لاهتزازات كثيرة، أهمها وأخطرها ما قام به الدكتور رفعت الأسد في عام 1984.

والآن وقد انتهى حكم حزب البعث في العراق، الذي شهد بدوره عشرات التصفيات الداخلية و «وجبات» الإعدامات، تحت جنازير الدبابات الأميركية في التاسع من إبريل (نيسان) عام 2003 ، فإن تحركات عبد الحليم خدام ، منذ ان انتهى به المطاف مهاجراً الى فرنسا وفاراً من سوريا بأحلام وطموحات العودة لانتزاع الحكم من أيدي من يعتقد أنهم اغتصبوه اغتصابا بعد رحيل حافظ الأسد، توحي بأن حركة فبراير (شباط) التي وقعت في مثل هذا اليوم قبل أربعين عاماً بالتمام والكمال قد تصل الى خط النهاية قريباً، فينتهي حكم هذا الحزب في سوريا كما انتهى حكم جناحه الآخر في بلاد الرافدين قبل نحو ثلاثة أعوام .

والمؤكد ان عبد الحليم خدام الذي شهد حركة الثامن من مارس (آذار) 1963 التي جاءت بحزب البعث الى الحكم في سوريا، والذي شارك في انقلاب فبراير (شباط) الآنف الذكر وفي الحركة التصحيحية في عام 1970، لا بد وأنه يخشى الآن من مصير كمصير صلاح البيطار الذي طاردته رصاصات الغدر الى باريس فاغتيل دون مراعاة لا لتاريخه النضالي الطويل، ولا لكونه ثاني اثنين بدأوا تأسيس هذا الحزب، ولا لتقدمه في العمر واقترابه من سن الثمانين.

صلاح البيطار الذي كان يعتبر العقل السياسي لحزب البعث، بينما كان ميشيل عفلق يعتبر ضميره العقائدي، وأكرم الحوراني يعتبر عقله المناور ومهندس انقلاباته العسكرية قد أُسقط يوم أسقطت «القيادة القومية»، وانتُهكت هيبتها في الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966، وكان قد فرَّ من دمشق مع من فرَّ من رفاقه السوريين وغير السوريين، ومن بين هؤلاء الأردني الدكتور منيف الرزاز، ولقد بقي البيطار يتنقل من عاصمة الى أخرى ومن بلد الى آخر الى ان انتهى به المطاف في باريس التي اختارها الآن عبد الحليم خدام حاضنة لهجرته، التي قال في البداية إنها إرادية وثبت بعد أيام فقط أنها كانت قسرية.

لم يعلن صلاح البيطار بعد وصوله الى باريس، التي درس فيها مع رفيق عمره ميشيل عفلق وتأثر بالمد القومي الأوروبي العارم في عقد أربعينات القرن الماضي، ما أعلنه عبد الحليم خدام، ولم يدع لإسقاط نظام حافظ الاسد الذي كان قد ورث الحركة الشباطية الآنفة الذكر.. إن كل ما قام به البيطار هو أنه حاول إحياء حلمٍ قديمٍ فأصدر مجلة أعطاها اسم «الإحياء العربي» وكان إصدار هذه المجلة هو سبب تعرضه للرصاصات التي وضعت حداً لحياته ولأحلامه الوردية العريضة.

كان صلاح البيطار، عندما بدأ هو وميشيل عفلق يفكران في إنشاء حزب قومي وهما على مقاعد الدراسة في باريس، قد اقترح ان يكون اسم هذا الحزب المنشود هو «حزب الاحياء العربي» لكن بعد العودة الى الوطن وبعد التعرف على المفكر العروبي اللوائي، نسبة الى لواء الاسكندرون، زكي الارسوزي الذي كان أطلق فكرة «البعث» وخص بها القيم والحضارة واللغة العربية، تم الاتفاق على ان يكون الاسم هو «حزب البعث العربي» وقد أضيفت كلمة «الاشتراكي» لاحقاً بعد انضمام أكرم الحوراني الى تلك التجربة الجديدة فأصبح الاسم هو الاسم الحالي «حزب البعث العربي الاشتراكي».

ولعل ما يعرفه عبد الحليم خدام المهاجر الجديد، بحياته وآرائه السياسية وبوجهات نظره الى باريس العاصمة المميزة، التي ألهمت صلاح البيطار فكرة «الإحياء العربي» والتي انتهى فيها مقتولاً، أنه لم يخطر في بال أي من الآباء المؤسسين الوصول الى الحكم من خلال الدَّبابات والعسكر، وذلك رغم أنهم ضمنوا دستور حزبهم فقرة تعرفه بأنه «حزب انقلابي».

رغم ان حزب البعث عرَّف نفسه في دستوره، الذي ربما لا يعرفه معظم محازبيه الآن، بأنه «حزب انقلابي» إلا أنه كان هناك أمل، بأن يقود تجربة ديموقراطية في الوطن العربي كله كالتجربة التي قادها حزب المؤتمر في الهند ، لو ان ظاهرة الانقلابات العسكرية لم تهيمن عليه، ولو ان الضباط المتعطشين للسلطة لم يصادروه ، ولو ان حركة فبراير (شباط) التي وقعت في مثل هذا اليوم من عام 1966 لم تقع، ولو ان ما سمي «الحركة التصحيحية» لم تكرر ما قامت به الحركة التي سبقتها وتضع قيادات الحزب في السجون وتطاردهم في المنافي وتتهمهم بالخيانة والتآمر، على غرار ما يواجهه الأستاذ عبد الحليم خدام الآن.

لقد انتهى حزب البعث، الذي كان يريده ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وكل الذين ساهموا في مؤتمر مقهى عرنوس في دمشق في ربيع عام 1947، رافعة جماهيرية وتنظيمية لـ«إحياء» الامة العربية وقيمها، منذ ان اختار أسهل الطرق للوصول الى السلطة ومنذ ان اختطف الحكم أولاً بانقلاب الثامن من فبراير (شباط) عام 1963 في العراق، ثم في الثامن من مارس (آذار) من العام نفسه في سوريا.

وهكذا فقد جاءت حركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط) 1966 في سوريا بمثابة الطامة الكبرى، إذ أصبح الحزب كله مطية للضباط المتعطشين الى السلطة. وما لبثت الأمور أن بدأت تنتقل من حلقة جهنمية الى حلقة جهنمية جديدة الى ان تحول «حزب الإحياء العربي» الى مجرد «ميليشيات» متزمتة في قطريتها لا تتورع عن ارتكاب حتى أبشع الموبقات دفاعاً عن النظام الحاكم، بينما تحولت فروع هذا الحزب «القومية» الى أجرامٍ صغيرة تدور، إما في فلك النظام الشمولي في بغداد او النظام الشمولي في دمشق.

إنها نهاية مأساوية، فالبعث أكل نفسه قبل ان يأكله الآخرون، وكانت القفزة النهائية التي كسرت عنق هذه التجربة، التي اعتبرها البعض واعدة ، أولاً عندما قام صدام حسين بغزو الكويت في عام 1990، ثم عندما انتهت كل المخططات السورية في لبنان بهذه الكارثة المدمرة التي بدأت بصدور القرار الدولي رقم 1559، والتي لا تزال حلقاتها تتلاحق وأهمها حلقة اغتيال الشهيد رفيق الحريري في شباط (فبراير) العام الماضي