يُحكى أنَّ رجل أعمال أميركياً ثرياً توجّه من نيويورك إلى جزيرة سياحيّة على الشاطئ المكسيكي، لقضاء إجازة بعيداً عن صخب نيويورك وضغط الحياة العمليّة فيها، وقد لفت انتباه هذا الثري الأميركي، مركب صيد صغير يذهب صاحبه كل صباح إلى عرض البحر ويعود محمّلاً بأسماك وافرة العدد.
وقد دفعت حشرية رجل الأعمال إلى محاورة الصيّاد، فسأله عن سبب اقتصار صيده اليومي على نفسه فقط ومن خلال مركب صغير بينما بإمكانه كصيّاد بارع التوسّع في عمله.
فردّ الصيّاد المكسيكي: أنا أكتفي يوميّاً بما أصطاده من السّمك لعائلتي، وأبيع الباقي لمتجر سمك محلّي بما يغطّي احتياجاتي الأخرى، ثمّ أعود إلى منزلي لأخذ قيلولة، وأستمتع بوقتي مساءً مع عائلتي وأصدقائي.
– فأجابه الثري الأميركي: لكن بإمكانك وأنت صيّاد بارع أن تستخدم آخرين وأن تمتلك مراكب أكثر وأن تحقّق أرباحاً كبيرة من تجارة صيد السمك..
– فردّ الصيّاد: ثمّ ماذا بعد ذلك؟
– قال الثري الأميركي: ستصبح لديك أموال طائلة تستثمرها في نيويورك كما أفعل أنا وتصبح من رجال الأعمال الأغنياء...
– أجاب الصيّاد: ثمّ ماذا بعد ؟
– ردّ الثري الأميركي: سيكون بإمكانك العيش كرجل ثري مثلي وتذهب في إجازات كما أفعل أنا هنا هذه الأيام.
– فأجاب الصيّاد: تريدني أن أفعل كل ذلك لأنتهي هنا في إجازة لأيّام ثمّ أعود بعدها لما أنت هارب منه في نيويورك، بينما أعيش أنا الآن في هذا المكان حياة هادئة هانئة وكأنّ حياتي كلّها أيّام إجازة.
وهنا أدرك الثري الأميركي حكمة هذا الصيّاد في سؤاله: ماذا بعد؟!
تذكّرت مضمون هذه الرواية الحكيمة عن الحياة عامّة وأنا أتساءل في نفسي عن ماهية مستقبل التطورات الهامة الّتي تحدث الآن في لبنان وفلسطين والعراق، وعن تصاعد المناخ السلبي بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي بسبب الرسوم الكاريكاتوريّة وردود الأفعال عليها.
طبعاً في رواية «الصيّاد» جانب لا يعنيني هنا عن أهميّة القناعة في الحياة، وعن أن المال لا يشتري السعادة في الحياة... ما يهمّني من حكمة هذه الرواية هو السؤال المهم: ماذا بعد؟ وكيف أنَّ الأحلام والغايات لا يجب أن تنفصل عن هذا السؤال في الأمور كلّها الخاصّة والعامّة.
فاللّبنانيون مثلاً، وكذلك الفلسطينيّون والعراقيّون، يعيشون اليوم أزمة الإجابة عن سؤال: ماذا بعد؟ وهم الآن جميعهم في مأزق داخلي يعانون من خطر التدخّل الخارجي في قضاياهم الوطنيّة، ومن مخاطر انقساماتهم السياسية الحادّة.
سؤال «ماذا بعد»؟ يتعامل عادةً مع وقائع وتحدّيات لا يسأل كثيراً عنها من هم منشغلون في العمل لهدف ما، حيث يصبح هذا الهدف هو الغاية المطلقة الّتي تحجب ما خلفها من احتمالات ووقائع جديدة تجعل المستقبل أحياناً أشدّ خطورة من الحاضر أو ربّما أسوأ من الماضي المنبوذ.
هذا الأمر لا ينطبق فقط على لبنان والعراق وفلسطين، بل على عموم المنطقة العربيّة وعلى الأطراف الدوليّة المحرّكة لمسارات أحداثها الآن، فالمصطلح الدولي المستخدم ( أزمة الشرق الأوسط ) للتعبير عن الصراع العربي الإسرائيلي، تحوّل الآن إلى ( الشرق الأوسط المتأزّم ) إذ إنَّ معظم أرجاء المنطقة تعيش أزمات مشتعلة.
وكل طرف يعاني من مأزق سياسي ومخاوف أمنيّة. حتّى الولايات المتّحدة الّتي تقود حركة الأحداث في الشرق الأوسط تعاني الآن من أزمة الإجابة عن سؤال:
«ماذا بعد»؟. هكذا هو الحال في العراق الّذي مضى على انتخاباته النيابيّة أكثر من شهرين ولم يحصل التوافق بعد على حكومته الجديدة، ولا أيضاً على صورة مستقبله السياسي والأمني..
وربّما كان نجاح واشنطن في إسقاط النظام العراقي السابق وفشلها فيما بعد ذلك، يعود أصلاً لعدم وضع الإجابة السليمة عن سؤال: ماذا بعد إسقاط النّظام؟ فكانت النتيجة مأزقاً سياسياً وأمنياً على وطن عراقي ممزّق.
أيضاً، نجح الضغط الأميركي/ الفرنسي المشترك في إخراج القوّات السوريّة من لبنان دون التعامل مع سؤال: «ماذا بعد»؟
واستطاع هذا الضغط الدولي بمساندة قطاعات سياسية عديدة في لبنان أن يوظّف جريمة اغتيال رفيق الحريري إلى أقصى الدّرجات في إطار معركة هي أكبر من لبنان ومن شخص الحريري، وقد يكون ضحيّتها السلم الأهلي اللّبناني لأنّها تتم في ظل غياب توافق وطني لبناني على بدائل المرحلة السابقة من الناحيتين الأمنيّة والسياسيّة.
فإذا كانت الضغوط الأميركيّة/ الفرنسيّة تستهدف فعلاً حرّية لبنان وسيادته واستقراره، فلماذا لا تدفع هذه الضغوط باتّجاه الحوار الوطني الشامل وبوقف التصعيد السلبي وبتسهيل المبادرات العربيّة؟
أمّا، والهدف «غير لبناني»، فإنَّ الفوضى الأمنيّة اللبنانيّة إذا حدثت كوسيلة دوليّة للنيل من المستهدفين الحقيقيين، ستؤدّي إلى هدم مصالح هذه الدول الضاغطة وتحقّق فقط مصلحة إسرائيليّة في إشعال نار الفتنة والانتقام من كل لبنان وشعبه ومقاومته الّذي أجبرها على الانسحاب المذلّ لها ولجيشها المحتل عام 2000.
فهل إجابة واشنطن وباريس عن سؤال: «ماذا بعد الانسحاب العسكري السوري من لبنان»؟ هي حرب أهليّة لبنانيّة تعيد الصراع الإقليمي على أرضه؟! وهل في قدرة واشنطن ضبط التداعيات السلبيّة في ساحات جديدة بالمشرق وهي عاجزة عن ضبط أوضاع العراق بحضور أكثر من مئة وخمسين ألف جندي أميركي؟
أمّا في الساحة الفلسطينيّة، فإنَّ سؤال «ماذا بعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعيّة؟» فيبدو أنَّ الإجابة عنه لا ترتبط فقط بالموقفين الأميركي والإسرائيلي، بل هو أيضاً سؤال موجّه لحركة حماس نفسها، الّتي قرّرت المشاركة بانتخابات هي أصلاً إحدى إفرازات اتفاقيّات أوسلو وما بعدها من اتّفاقيات كانت «حماس» تقف ضدّاً لها بالقول والعمل.
وما زلْتُ أعتقد أنَّ واشنطن كانت تدرك إمكان فوز «حماس» وبأنّها لم ترَ ضرراً لسياستها ولا لحليفتها إسرائيل في أن تكون «حماس» بالسلطة الفلسطينيّة!.
فهذا التطوّر السياسي الفلسطيني يبقى محصوراً في «الدائرة التمثيليّة» ومع «المسألة الديمقراطيّة» ولا يصل إلى قضيّة الكيان وتحرير الأرض، وبأنَّ هذه النتائج ستضع الفلسطينيين في مأزق وستحرّر إسرائيل وواشنطن من التزامات نصّت عليها الاتفاقات السابقة، ومن ضغوط أوروبيّة لم يعد لها الآن أي وجود أو مبرّر.
وربّما كان من الأجدى في هذه المرحلة أن تترك حركة حماس الحكومة التنفيذيّة لغيرها أو لحكومة غير سياسيّة يتولّى إدارتها الرئيس الفلسطيني نفسه، عوضاً عن وضع يكون فيه الرئيس أبو مازن (يملك ولا يحكم)، وتكون فيه حماس (تحكم ولا تملك)!.
درسان مهمّان في تاريخ صراع لبنان مع إسرائيل، وكلاهما يتعامل مع سؤال: «ماذا بعد؟».
الدّرس الأوّل: كان عام 1983، حينما انسحبت إسرائيل من جبل لبنان، لكن ما بعد الانسحاب كان حرباً أهليّة في الجبل بين ميليشيات درزيّة وأخرى مسيحيّة راح ضحيّتها أبناء من الطائفتين ولبنان كلّه.
الدّرس الثاني: كان عام 2000، حينما انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان وبقاعه مراهنةً على فتنة داخليّة شبيهة بما حدث عام 1983، لكن ذلك لم يحدث آنذاك بفعل وعي المقاومة وحسن تصرفها.
في الحالتين: انسحاب الجيش المحتل كان مسألة وطنيّة صحيّة، لكن السؤال المهم الّذي به يمكن كشف الحالات المرضية كان: ماذا بعد!