أحد الاتجاهات الاكثر رواجا الآن داخل الولايات المتحدة الاميركية في النقاش حول السياسة الخارجية الاميركية هو نقد الاندفاعات العسكرية التي قامت بها ادارة الرئيس جورج دبليو بوش خلال ولايته الاولى تحت التأثير المسلَّم به لـ"المحافظين الجدد" داخل وخارج هذه الادارة.

صحيح ان هذا النقد كان دائما موجودا وفي ذروة صعود نفوذ "المحافظية الجديدة" بعد احداث 11 ايلول 2001، لكن الجديد لا شك الذي يحمله النقاش الحالي هو كثافة الاقلام الناقدة الآتية ليس فقط من قلب اجواء الحزب الجمهوري بل ايضا من داخل "المؤسسة" المعنية تقليديا بـ"الفكر" الديبلوماسي الاميركي على "الشاطئ الشرقي" كما يقال عادة في اميركا.

سيل من الكتب والمقالات عن "انهيار" او "فشل" فكرة "الحرب الوقائية" بصورة خاصة الكتابات عن "فشل" سياسة ترويج الديموقراطية بالوسائل العسكرية، يشجع على هذا السيل اساسا ما ظهر من ميل عملي لدى الرئيس بوش الى السعي لتعديل في سياسته السابقة نحو ديبلوماسية "تعددية" لا انفرادية اعتبر القرار 1559 حول لبنان بدايتها الاوضح كعنوان للعلاقة مع فرنسا وتمثل وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس رمزها الابرز. لكن في اساس كل هذه الموجة النقدية العارمة نظرة شائعة داخل اميركا وخارجها ترتكز على الانتكاسات الامنية في العراق واستفادة التيارات الاصولية المعادية لاميركا في العراق ومصر وفلسطين من صناديق الاقتراع التي فُتحت لشعوب المنطقة اما بعد قصف الدبابات الاميركية او تحت تأثير هدير جنازيرها.

"الموضة" الآن اذن هي الحديث عن فشل السياسة الاميركية من حيث التعثر في تحقيق الاهداف المباشرة مع ان ابواب التغيير فُتحت الى غير رجعة في العالم العربي. فلقد ادت "الحماقات" العسكرية الاميركية الى خلق مناخ "ثوري" في منطقتنا بعضه يجري بهدوء وبعضه الآخر بفوضى (قد تكون "خلاقة"!!)، بعضه بشكل بناء وبعضه الآخر بشكل هدام.

لستُ متأكداً ولا استطيع ان أتأكد مما اذا كانت "المحافظية الجديدة" قد خدمت او أضرت المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الاميركية على المدى البعيد بعد ان بدأ إبعاد بعض رموزها تدريجيا عن مناصبهم داخل الادارة في ولاية بوش الثانية (والمثير على اي حال ان ايا من "المحافظين الجدد" لم يحتل يوما منصبا في الصف الاول بل كان تأثيرهم يتم من خلال نائب الرئيس او وزير الدفاع او مستشار الامن القومي).

... لكن الامر الاكيد انه بدون "الحماقات" العسكرية الاميركية لم يكن ممكنا ضرب "الركود" السياسي العربي بل "التخثر" الذي اصاب الطاقة الحيوية التغييرية لعدد من المجتمعات العربية ونخبها تحت وطأة نجاح انظمة غير ديموقراطية في ترسيخ استقرار ذي وجهين معا: قسري امني ورضائي يداعب مصالح البورجوازية المصابة بعارض "الكسل التاريخي" في بلدان عربية مهمة او استقرار قسري فقط بعد نجاح النظام السياسي في تحطيم المجتمع نفسه وخصوصا بورجوازيته وطبقته الوسطى كما حصل في عراق صدام حسين او كما يحصل في ليبيا معمر القذافي. اي مساجل يحترم نفسه يستطيع الادعاء انه كان من الممكن اسقاط صدام حسين بدون تدخل خارجي سواء ايد الحرب في العراق او عارضها وكاتب هذه السطور كان بين المعارضين رغم قناعتي ان المشروع الاميركي للتغيير الذي طرحته الولاية الاولى لبوش كان مع الاسف المشروع الوحيد الجدي للتغيير في العالم العربي في ظل الخمول الكامل لاي مشروع عربي وتحول النخب "اليسارية" العربية عموما الى قوة رجعية عموما في خدمة الاستقرار الاستبدادي.

المجتمع الاميركي، ناخبين ونخبا وخبراء، هو الذي يقرر طبعا ما اذا كانت الكلفة البشرية والمالية والاخلاقية المدفوعة في سياسة التغيير العسكري نحو الديموقراطية في العالم المسلم تستحق بقياس المردود هذا العناء او لا تستحق في نهاية الامر، لكن يبدو الآن اكثر من اي وقت مضى ان "المشهد" العربي كان يحتاج الى تحريك ما خارجي، افكارا وآليات.

... ايضا اكثر من اي وقت مضى يبدو مشروع التغيير الاميركي "ضحية" نفسه اساسا عبر العطل الجوهري فيه. العطل "العنيد" المزمن في بنية السياسة الاميركية في المنطقة منذ تأسيس اسرائيل، وهو الانحياز الاميركي الصارخ لصالح اسرائيل في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. انه العطل المزمن الذي من شأنه هو ان يقوض مشروع التغيير الديموقراطي الذي تحمله واشنطن اليوم.

المثير ان سيل الانتقادات المتجدد داخل اميركا للسياسة التدخلية العسكرية في الشرق الاوسط غالبا ما لا يعتبر – بل لا يتعظ من – التأثير البالغ السلبية للانحياز الاميركي الى اسرائيل على كل صورة اميركا ومشاريعها في المنطقة. كأنما فعلا هذا "العطل" هو ليس سمة المؤسسة الحاكمة الاميركية وحدها بل سمة بنيوية ايضا لكل النخبة السياسية الاميركية بشكل عام.

ما يدفعني الى هذه الملاحظة الاخيرة هو قراءتي للمقال المطول المهم الذي كتبه فرنسيس فوكوياما وقدمه على انه حصيلة لكتابه الجديد الذي سيصدر قريبا عن منشورات جامعة ييل تحت عنوان: "اميركا على مفترقات الطرق" ولعله الاهم في الموجة الجديدة لنقد السياسة التدخلية الاميركية والذي عنونه الكاتب بعنوان شديد الدلالة: "ما بعد المحافظية الجديدة" اي طبعا ما بعد المحافظين الجدد!

في هذا الانقضاض "النهائي" على "المحافظين الجدد"، يلجأ فوكوياما الى استعارة فكرية اجدها طريفة. فهو يقول ان نظريته حول "نهاية التاريخ" هو "نوع من الحجة الماركسية" للتأكيد على "حتمية" ولكن من نوع آخر: انتصار الديموقراطية الليبرالية الحاسم كحصيلة لسياق طويل المدى من التبلور الاجتماعي، بينما "الحتمية" الماركسية كانت انتصار الشيوعية. لكنه، يتابع فوكوياما، يتناقض مع رؤية "المحافظين الجدد" التي اعتبرها البعض "لينينية". فـ"اللينينية كانت "مأساة" في الصيغة البلشفية، بينما تحولت الى مهزلة في "الصيغة" الاميركية، بعدما عبرت عنها، اي عن "اللينينية" المدرسة "المحافظية الجديدة" من حيث ان "اللينينية" هي تنفيذ المبادئ "الماركسية" بالقوة وارادة هذا التنفيذ. فـ"المحافظون الجدد" بتبنيهم للتغيير القسري للانظمة الاستبدادية بواسطة الوسائل العسكرية كانوا يحاولون ان يسرِّعوا هذه "الحتمية"... وهو ما يعلن فوكوياما عدم امكانيته الشخصية بعد التجارب (العراق وافغانستان) على تأييده من الآن فصاعدا.

المهم ان فوكوياما الذي يعترف انه تأثر ببعض منظري "المحافظين الجدد" في الجامعة وعمل مع بول وولفويتز مرتين في السابق يقول ان فشل هذه المدرسة "التي يظهر ان لحظتها قد مرت" (تعبير "لحظة المحافظية الجديدة" كان عنوانا لاحد مقالاته عام 2004) يفرض على الولايات المتحدة اعادة التحديد المفهومي لسياستها الخارجية ويقترح – كمهمة اولى – "نزع عسكرة الحرب على الارهاب" وجعل المستوى العسكري – اي الحرب – احد عناصر الصراع الشامل مع الارهاب وليس عنصره الوحيد. ويدعو لمواجهة تحدي "الاسلام الجهادي" الى ان تكون اوروبا "ساحة المعركة المركزية" للمواجهة، بعدما اظهرت ردود الفعل على احداث (ضواحي) فرنسا والدانمارك اهمية الساحة الاوروبية الحاسمة. (سننشر مقالة فوكوياما كاملة لاحقا).

الحصيلة... وبعد ان يدعو فوكوياما اميركا الى تعلم البناء "الافقي" للتعامل بين البلدان، عبر اقامة منظمات دولية تلبي بشكل افضل متطلبات الشرعية السياسية للاهداف الاميركية يقول ان المطلوب الآن "ويلسونية جديدة" تعمل وتهتم ليس فقط بالديموقراطية بل ايضا بحكم القانون. إذن يدعو لعدم العودة الى "الواقعية" القديمة للسياسة الاميركية التي جعلت واشنطن حليفة حكام استبداديين وفي الوقت نفسه التخلي عن النزعة العسكرية للتغيير. اذاً... اذا استعرنا منطق مقال فوكوياما فهو يريد "ماركسية" مبادئ اميركية للديموقراطية دون "لينينية" تنفيذها بالقوة العسكرية التي تبناها "المحافظون الجدد".

... في كل هذه المقاربة ومن ضمنها انضمامه الى الرأي القائل ان الاسلام الراديكالي نتاج الحداثة نفسها، ايضا لا "يرف جفن" فوكوياما حيال مسؤولية السياسة الاميركية المنحازة لاسرائيل عن النكسات الاميركية في العالم المسلم، بل هو على العكس يتبنى... ولو بشكل عابر وانما واضح – مسؤولية "نظام "فتح" الفاسد" عن عدم قيام سلام اسرائيلي – فلسطيني ثابت. (نظرية "المحافظين الجدد" نفسها!).

المراجعات كثيفة وعديدة على قدم وساق... وهي اصلا منعكسة بهدوء ودقة على اداء الولاية الثانية... مراجعات من شأنها ان "تغيِّر" اميركا التي ذهبت الى تغيير العراق والشرق الاوسط.

السؤال الآن الى اين يمكن ان تصل هذه المراجعة على المستوى الرسمي خلال عهد الرئيس بوش الحالي؟ من افغانستان الى العراق الى لبنان... مرورا بمصر وسوريا وفلسطين؟

وهل سيكمل لبنان الافادة من الفرصة الاستثنائية التي اعطته اياها السياسة الاميركية في عملية بناء الدولة قبل فوات الاوان... اي قبل انتقال الاهتمام الاميركي الى دائرة اخرى... تعيدنا الى الهامش الذي عانينا كوابيسه طويلا؟

كيف يمكن أن تقنع الآخر بأنه أخطأ في حق نبيك الذي علمك ثقافة إمساك النفس عند الغضب والإقناع بالحسنى والصفح عن الإساءة وأنت تمارس كل ما نهى عنه نفس ذلك النبي؟!

هل ذهب وفد من الذين يملكون موهبة التعامل مع عقول الغربيين إلى العواصم الأوروبية بعد نشر الرسوم للمرة الأولى ليشرحوا للصحف ودور النشر ومراكز الأبحاث ان الإسلام يدعو إلى الحوار والتسامح وأن ما حدث كان إساءة إلى جوهر عقيدة المسلمين يجب ألا تكرر هل تم تنظيم محاضرات مكثفة في الجامعات والمعاهد الغربية للتأكيد على أن هجمات الـ 11 من سبتمبر وتلك التي ضربت مدريد ولندن وغيرهما لا تحمل شيئا من تعاليم دين دعا نبيه إلى عدم قتل عجوز أو طفل أو امرأة أو حتى قطع شجرة في حرب مباشرة‚ ناهيك عن قتل المدنيين في هجمات انتقامية لا يوجد لها أي سند في الفقه الإسلامي؟

كان بإمكان خطيئة نشر الرسوم المسيئة أن تستثمر للتعريف بالإسلام وشرح جوانب سماحته وانفتاحه‚ لكننا اخترنا العنف والتخريب وتجاوز القانون لنعترض على رسوم يعتقد أصحابها أن ديننا يدعونا إلى كل ذلك‚