أصبحت قضية التدهور في العلاقات السورية- الفرنسية منذ بدايات سنة2004، حكاية مكرورة لكثرة ما تداولها السياسيون والكتاب، منذ قرار دمشق فرض التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود.لقد قيل الكثير من الكلام حول الأسباب التي حدت بالرئيس الفرنسي جاك شيراك، لأن يغير رأيه بالرئيس الشاب بشار الأسد،ويوقف دفق"الحرارة الأبوية" تجاهه،وينتقل إلى النقيض. وخلاصة الكلام حتى الآن، هو أن الأسد خيب ظن شيراك في مايتعلق تعهداته ووعوده بالانفتاح السياسي والإصلاح الاقتصادي،وموقفه من لبنان. بالإضافة إلى عقد الغاز السوري، الذي يعتبر النقطة التي أفاضت الكأس الملآن.وقصة هذا العقد أن شركة "توتال" النفطية الفرنسية قدمت عرضا للاستثمار، في ميدان الغاز السوري إلى جانب شركات أجنبية أخرى،منها بريطانية وأميركية -كندية ذات رأسمال أميركي.وقد تبين أن العرض الذي تقدمت به الشركة الفرنسية كان الأفضل، لجهة المواصفات المطلوبة لكن السلطات السورية قامت بعملية تحايل مكشوف، ومنحت العقد للشركة الأميركية- الكندية، التي يتولى وكالتها أخوال الرئيس السوري( آل مخلوف).

أغضب هذا الأمر الرئيس شيراك لعدة أسباب: الأول، هو استبعاد الشركة الفرنسية رغم فوزها بالعقد على نحو قانوني،ومن موقعه كان من الطبيعي أن يعتبر العملية ضربا من التحايل الذي لا يليق بالدول أن تمارسه.فقد كان بوسع سوريا أن تمنح العقد للشركة الأميركية - الكندية مباشرة،ولن تجد من يعترض على ذلك،لكن أن تعلن عن مناقصة، ومن ثم تتلاعب في نهاية المطاف،فإن ذلك غير مقبول،لاسيما وان السبب المباشر واضح،وهو مصلحة "آل مخلوف". السبب الثاني لانزعاج شيراك،هو أن قرار سوريا منح العقد للشركة الأميركية - الكندية لا يخلو من بعد سياسي.وهو في جانب منه يوجه رسالة إلى الإدارة الأميركية، فحواها أن بشار ينظر بعين الرعاية إلى المصالح الأميركية في سوريا.لكن الرسالة جاءت فاقعة على ضوء القرار الذي كان قد اتخذه الكونغرس الأميركي قبل وقت قصير،و بأغلبية ساحقة، ضد سوريا،ومر تحت عنوان:"قانون معاقبة سوريا وتحرير لبنان". ومن جملة ما حمل فرض عقوبات اقتصادية على سوريا!وهنا يكمن جانب الصدمة بالنسبة للمسؤولين الفرنسيين الذين أبدوا تضامنا كبيرا مع سوريا،وصل إلى حد أن الرئيس شيراك أعلن من على منبر البرلمان اللبناني، خلال مشاركته في قمة الفرانكوفونية سنة2002،أن سوريا سوف تسحب قواتها في صورة نهائية من لبنان في إطار حل شامل للصراع العربي الإسرائيلي.ولو انه لم يكن يريد منح بشار الأسد فرصة ليثبت نفسه، لكان قد انضم للدعوة الأميركية الإسرائيلية، التي كانت تطالب سوريا بسحب قواتها من لبنان،أسوة بإسرائيل التي قامت بذلك سنة 2000.والسبب الثالث علم الرئاسة الفرنسية، أن بشار اتخذ قرار حجب العقد عن الشركة الفرنسية،رغم أن السفيرة السورية في باريس صبى ناصر،نبهت في تقرير موجه للرئيس الأسد ،لأهمية عقد الغاز في العلاقات السورية الفرنسية.

كان لهذه القضية أثرها السلبي المباشر على موقف شيراك، الذي اقتصر رد فعله على سحب الجانب الشخصي من التعاطي مع النظام السوري، ولم تلجأ فرنسا في هذا الوقت إلى وقف المعاملة الاستثنائية، التي كانت تخص بها سوريا، في ميادين إصلاح الاقتصاد والإدارة والقضاء والتعليم...الخ.وقد استمر الخبراء الفرنسيون في تأدية عملهم ضمن إطار المساعدة التي قدمتها فرنسا إلى سوريا، بعد زيارة بشار الأسد إلى باريس على اثر توليه الحكم.ولو أن فرنسا تصرفت من موقع رد الفعل،لما بقي الخبراء الفرنسيون هناك.

إن مناسبة العودة إلى إثارة هذا الموضوع اليوم، هي سلسلة المقالات التي نشرتها مؤخرا كل من صحيفتي "الحياة" و"السفير" عن العلاقات السورية - الفرنسية،وذلك بعد زيارة لفرنسا قام بها مراسلا الصحيفتين في دمشق إبراهيم حميدي،وزياد حيدر.ليس هدفي بالطبع مناقشة ماجاء في جولات الأفق، التي أجراها الصحافيان من باريس،ولا ماحفلت به من آراء مختلفة،بقدر ما أريد التوقف عند نقطتين أساسيتين وردتا في تغطية "الحياة": النقطة الأولى تتعلق بالموقف الفرنسي من الصراع العربي الإسرائيلي.ففي تمريرة واضحة،المقصود منها رمي المسؤولية على ظهر فرنسا في تدهور العلاقة،ذهب حميدي للاستشهاد بمقال لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، يقول أن مستشار الرئيس الفرنسي"موريس غوردو دو مونتانييه" زار دمشق في تشرين الثاني/نوفمبر سنة2003، حاملا رسالة من شيراك وشرودر وبوتين للأسد تحضه على ضرورة مجاراة التغيرات الدولية الجديدة :"حرب العراق غيرت الأمور في الشرق الأوسط،وعلى سوريا أن تظهر أنها تغيرت أيضا،من خلال قيام الأسد بزيارة القدس، أو اتخاذ خطوات أكثر جرأة لإقامة سلام مع إسرائيل.وكان الجواب للمبعوث الفرنسي:هل أنت ناطق باسم الأميركيين؟".

ليس بوسع الذين يعرفون السياسة الخارجية الفرنسية،أو مواقف شيراك تحديدا، أن يصدقوا هذه الرواية .فهل حقا أن البلد الذي شكل نقطة التوازن في السياسة الدولية تجاه النزاع العربي الإسرائيلي منذ سنة 1967،يتحول فجأة في اتجاه يدعو بشار للذهاب إلى القدس؟ وما يثير الريبة والشك هنا هو ، أن هذه المعلومة التي هي على قدر كبير من الأهمية، ظلت مكتومة حتى اكتشفها الصحافي"ديفيد اغناطيوس"، ونشرها في "واشنطن بوست"،ثم نقلها عنه مراسل "الحياة" في دمشق. إننا إزاء سلسلة من الأحاجي والمصادفات التي تحتاج إلى عبقرية خاصة، من نمط تلك التي يتمتع بها اللواء الدكتور بهجت سليمان مسؤول المخابرات السورية السابق، وصديق الصحافيين ورجال الفكر، وبعض زعماء المعارضة القومية.والسؤال الذي يطرح نفسه هو، إذا صحت هذه الحادثة لماذا تكتم عليها الإعلام السوري طيلة هذا الوقت،وهو الذي شغل نفسه بتفاصيل اقل أهمية حول مواضيع الخلاف بين الطرفين.لماذا لم يقل الطرف السوري علانية انه اختلف مع فرنسا حول الصراع العربي الإسرائيلي.؟ إن تسريبات الظل تبقى في الظل. ولا يكفي الافتراء على الآخر لتبييض السجلات السوداء.

تتعلق النقطة الثانية،تتعلق باستنتاج الحميدي بأن "انغلاق قناة دمشق" قابله انفتاح باريس على"قناة واشنطن" في آب/أغسطس سنة 2004. وهو يتحدث أيضا عن "انقلاب ابيض" في السياسة الخارجية الفرنسية لصالح واشنطن،ويربط ذلك يتغير حصل في الموقف الفرنسي تجاه احتلال العراق.صحيح أن تفاهما أميركيا فرنسيا حصل منذ هذا لوقت،لكن الملاحظ هو أن الموقف الفرنسي حول العراق لم يتغير بدليل أن فرنسا ماتزال عند قرارات مجلس الأمن من استعادة السيادة العراقية،كما أنها لم ترسل قوات إلى العراق،وهذا مؤشر هام.والأمر ذاته ينطبق على المسافة القائمة بين موقفي باريس وواشنطن من القضايا الدولية الأخرى.من فلسطين حتى إصلاح الأمم المتحدة والملف النووي الإيراني،ورفع حظر السلاح عن الصين.

ما كنت سوف أكلف نفسي عناء التعليق، لو أن الزميل الحميدي نشر اكتشافاته القيمة في جريدة"تشرين"،لكن لكونها صدرت في "الحياة"،فإن الأمر اقتضى التوضيح.