رصدت الإدارة الأميركية خمسة ملايين دولار لدعم قوى سورية وأولئك (الشجعان) الذين يعملون للتحول الديمقراطي في سورية، سواء كانوا أحزاباً أم تيارات سياسية ومنظمات مجتمع مدني، وطرحت بذلك الديمقراطية السورية والديمقراطيين السوريين بالمزاد العلني وحرضت على البيع والشراء، بما يهين حتى من لا كرامة لهم. ويبدو أن إدارة الرئيس بوش تعتقد أنها بهذا الإجراء المنافي للأخلاق وللعمل النضالي والقانون الدولي تزيد نشاط المجموعات الديمقراطية السورية (اشتعالاً) وتهيئ المناخ لتحويل النظام السياسي السوري من نظام شمولي إلى نظام ديمقراطي بشراء بضعة عملاء إن وجدت من يقبل التعامل معها، وتحل بذلك المشكلات السورية الصعبة الداخلية منها والخارجية وتخرج سورية من مأزقها.

تصر إدارة الرئيس بوش في كل مناسبة على تأكيد جهلها بسورية وبظروفها وتحولاتها والحراك السياسي والاجتماعي الذي تشهده وواقع القوى السياسية والاجتماعية السورية وآلية نضالها وأهدافها ومنهجها بالعمل، وقبل ذلك وبعده بمزاج الشعب السوري وقيمه وتقاليده النضالية وموقفه من الهيمنة الخارجية ورأيه بالتاريخ الاستعماري (الكولونيالي) والتاريخ الامبريالي من بعده، وأبعاد الصراع في المنطقة وعليها، ولذلك أقدمت على ما أقدمت عليه وأعلنت عن هذه (المكافأة) لأولئك النشطاء في سبيل الديمقراطية والمنادين بالحرية والعاملين على تحقيق الإصلاح في بلدهم في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحقيق العدالة والتعددية والحوار الوطني والتوافقات الوطنية وكأنها تشتري بذلك سلعاً كاسدة.

استنكرت قوى المعارضة الداخلية السورية هذا (العرض المهين) الذي ينال من مواقفها الوطنية المسؤولة ونضالها الطويل وتضحياتها الجسام وهي محقة في استنكارها ليس فقط لأن تاريخ الحركة الوطنية الديمقراطية السورية لم يتلوث بمد اليد للخارج ولكن قبل ذلك لأن قوى الداخل السوري ترى أن التحول السياسي والاجتماعي في سورية هو مسؤوليتها هي وبأدواتها وآلياتها ورؤاها الصائبة ومنهجيتها الصحيحة وصبرها وتناولها القضية الوطنية والتقدم الاجتماعي بروح المسؤولية، وبديهي أن ذلك لا يتحقق بالمساعدات الخارجية أو بالعون الخارجي، ولهذا أكدت جميعها سواء قوى إعلان دمشق أم أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي أم منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان ومازالت تؤكد سياساتها الرافضة للتآمر مع الخارج لتغيير الداخل بأية صيغة من الصيغ، وقالت ذلك في أكثر من مناسبة ومارسته في حيز الواقع.

وأصبح من تقاليد المعارضة السورية أن أي حزب أو قوة سياسية أو اجتماعية تدعى للمشاركة في ندوة أو مؤتمر أو ما يشبههما خارج البلاد فإنما تسأل قبل كل شيء عن الممول وموضوع الندوة أو المؤتمر ومحاورهما وأسماء الجهات أو الأشخاص المشاركين، لأنها حذرة لدرجة مرضية تجاه التورط بنشاطات تدعمها جهات أو مؤسسات أو دول خارجية فكيف إذا كانت المساعدة مباشرة ومكشوفة ومن الإدارة الأميركية التي ترفض المعارضة السورية بشدة سياساتها الشرق أوسطية المعروفة وعدوانها على العراق وغير العراق من البلدان العربية والإسلامية وتدخلها اليومي في شؤون هذه البلدان ودعمها غير المحدود لإسرائيل، وتزايد وقاحتها يوماً بعد يوم وصولاً للمطالبة بتغيير المناهج المدرسية والسياسات الثقافية وسلم القيم والهوية القومية وأخيراً رشوة المناضلين وإفسادهم بدولاراتها.

يبدو أن الإدارة الأميركية لا تتعلم من تجاربها فلم تأخذ العبرة مثلاً من تجربتها المرة في العراق وما جلبت لها وللعراقيين من مآزق أغرقتها في مستنقع من الصعوبات والويلات والخيبات، ورغم تواجدها في البلدان العربية منذ أكثر من نصف قرن (مباشرة أو مداورة) مازالت جاهلة بأحوال الناس وتفكيرهم وسلم قيمهم ومزاجهم ومفاهيمهم الوطنية والاجتماعية وأهدافهم، وتتعامل معهم بمنطق السوق وقيمها ومنطق العطاءات والعروض وتسقط على مجتمعاتهم مفاهيمها الأميركية المنفرة وغير المجدية، وتغمض العين عن أن مثل هذا القرار (العرض) يسيء بالدرجة الأولى للقوى الديمقراطية التي تزعم أنها ستساعدها، وتلقي ظلالاً من الشك حول هذه القوى وحول نشاطاتها، ويقدم هدية لأعداء الديمقراطية في سورية وبعض أهل النظام ومبرراً للهجوم عليها وعلى نشطائها ويساعد على توجيه اصبع الاتهام إليها، ويسهل ملاحقتها وقمعها وسجنها ومنع حراكها بتهمة التعاون مع الخارج، مما يؤدي إلى إضعافها وإضعاف العمل من أجل التحول الديمقراطي، ولعل القوى المعادية للديمقراطية في سورية كانت سعيدة بالعرض الأميركي لأنه يتيح لها اتهام المعارضة بالعمالة للولايات المتحدة وسياساتها المرفوضة من الشعب السوري رفضاً قاطعاً ويزرع الشك في نفوس السوريين تجاه المعارضة التي بدأت تستعيد أنفاسها بقواها الذاتية لا بالدعم الخارجي.

قد تستفيد المعارضة السورية من الضغوط الخارجية على النظام ولكن في مجالات أخرى وبطرق وممارسات مختلفة حيث تجعله أقل تشدداً تجاه المعارضة، وتجبره على التروي قبل القيام بأي حملة ضدها أو تنفيذ إجراء تعسفي أما العلاقة المباشرة (والمأجورة) فهذا ما ترفضه جميع أدبيات المعارضة السورية وبياناتها كما شأنها دائماً تجاه التعامل مع الخارج أو قبول تدخله في شؤونها وفي شؤون البلاد بل وفي شؤون النظام نفسه. إن المعارضة السورية تستفيد من الضغوط دون أن تصنعها، ولم تلتبس عليها محاولات التماهي مع الوطن فهي تفرق بينهما، وتدرك أن النظام غير الوطن وان التعامل مع الخارج أمر غير وطني مهما كانت سياسات النظام وعسفه، وإن اعتقدت السياسة الأميركية أن مواجهة المعارضة السورية لسياسات النظام والمطالبة بتغييرها يعني قبول التدخل في شؤون البلاد فإنما هي تخدع نفسها وتقع في الخطأ كما وقعت فيه في أكثر من مكان.

تتصل الإدارة الأميركية ومخابراتها بقلة من السوريين خارج البلاد، ليس لهم قواعد جماهيرية في سورية وربما لم يزر معظمهم سورية أو عاش طفولته فيها فقط، ويبحث عن دور ما وسبيل للارتزاق ويحارب السلطة السورية بالنظارات على بعد آلاف الكيلو مترات، ويشكل بؤرة دعائية للسياسة الأميركية ومبرراً لعدوانها، ويعيش على دولاراتها، ويهيئ نفسه للعودة إلى سورية على ظهر دبابة أميركية ويستسهل المعارضة باعتبارها بنظره كلاماً وبيانات.

ولعل هؤلاء من ترصد لهم الإدارة الأميركية ملايين الدولارات ولا تنتظر منهم سوى لعب دور (الكراكوز) صوت سيده. أما قوى المعارضة السورية الداخلية ومعظم الخارجية فلها برامجها وسياساتها وتتصرف بملء المسؤولية الوطنية، وتعبر عن رأيها صراحة وتواجه أخطاء النظام وسطوة جهازه الأمني، وترفض فعلاً وقولاً التآمر مع الخارج بدولارات ومن دون دولارات، ويقتطع نشطاؤها قروشاً من دخلهم بما يكفي لأداء مهماتها ونشاطاتها السياسية والاجتماعية.