لم تشهد المنطقة العربية في تاريخها، حديثا عن الديمقراطية مثلما تشهده في الوقت الراهن، فالغرب يطالب الحكومات العربية بالإصلاح الديمقراطي، والنخب والأحزاب المعارضة بحّت أصواتها منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، مطالبة بالديمقراطية والحريات السياسية وإطلاق حرية الصحافة في مجتمعاتنا، بل حتى الحكومات العربية، باتت ترفع في خطاباتها الرسمية شعارات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.

ليس هذا فقط، بل إن التيارات المتطرفة في ضفة اليمين كما في ضفة اليسار، أصبحت تتبنى الديمقراطية كخيار للممارسة السياسية وللحكم أيضا. وهو ما جعل المنطقة تعيش ما يمكن تسميته بحالة من " الديمقراطوفوبيا".. فهناك تضخم للمطلب الديمقراطي لم يسبق له مثيل على وجه الإطلاق.

وإذا كانت مطالب النخب المثقفة والأحزاب السياسية، ونضالاتها من أجل الديمقراطية، باتت معروفة من حيث تفاصيلها وحيثياتها البرامج التي تقودها، على الأقل على المستوى النظري، فإن ما يلفت النظر فعلا، هو الشعار الديمقراطي الذي ترفعه عديد الحكومات العربية في المنطقة، وهو شعار يحمل نقيضه تماما على صعيد الممارسة السياسية.. ولعل نظرة في التطبيقات العملية للديمقراطية في بعض العواصم العربية، يحيلنا إلى تلك القاعدة المنطقية التي تقول: "تفهم الأشياء بأضدادها".

ففي تونس، تحاصَر عديد الأحزاب بذريعة أنها غير معترف بها، وقد تقدمت بمطلب تشكيل حزب منذ أكثر من عقدين دون الحصول على ترخيص من الحكومة، وتكمم الصحافة بتعلّة الحفاظ على مصالح البلاد العليا، ويجري تعديل الدستور من أجل إقصاء خصوم سياسيين، ومنع أحد رموز المعارضة من الترشح للانتخابات الرئاسية استنادا إلى تلك التعديلات الدستورية ذاتها.

وفي الجزائر المتاخمة للحدود التونسية، توضع الكمّاشة الأمنية والسياسية على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فيما يتم تفريخ أحزاب هي جزء من الديكور الديمقراطي، تأتمر بأوامر المؤسسة العسكرية التي تديرها بالشكل الذي ترغب فيه.

في مصر، يجري رفض منح "الإخوان المسلمون" تأشيرة حزب سياسي، فيما يتقدمون للانتخابات البرلمانية بنصف مرشحين موقوفين والنصف الثاني محاصر بقوات الأمن حتى لا ينجز حملته الانتخابية، وتأتي النتائج ـ رغم ذلك ـ عكس إرادة الحكومة المصرية.

لم يكتف النظام المصري بهذه الممارسة الديمقراطية، وإنما لجأ إلى تأجيل الانتخابات المحلية بغاية تفويت الفرصة على الإخوان، افتكاك مقاعد في المجالس المحلية، وبالتالي تحديد الترشيحات للاستحقاقات الرئاسية القادمة.

أما في لبنان، فقد دخل العماد الأمين لحود قصر بعبدا قبل بضع سنوات، بعد تعديل أحد مواد الدستور اللبناني، قاطعا الطريق بذلك أمام من كان يستحق الجلوس على كرسي القصر الرئاسي.

وفي فلسطين، لم تلبث قوى الجذب إلى الخلف إلا أن تلتفّ على خيار الشعب الفلسطيني من خلال ما سمّي بـ "انقلاب أبيض" في آخر جلسة للمجلس التشريعي القديم الذي أبى إلا أن "يطمئن" على الرئيس أبو مازن عبر تعديل قانون المحكمة الدستورية بشكل يخوله حل البرلمان وإلغاء أي القوانين بموجب تلك التعديلات التي بات أعضاء المحكمة يعينون في غالبيتهم من قبله، وذلك على خلفية محاصرة حركة «حماس» التي وصلت للانتخابات بصندوق الاقتراع.

في سوريا التي تمر بموقف صعب ومعقد، يجري الحديث عن الديمقراطية في الصباح، وتفتح الحوارات مع المعارضة ظهرا، ثم يتبدل كل شيء مع بداية غروب شمس ذلك اليوم، فحسابات حزب البعث والأجهزة الأمنية هناك، فوق كل اعتبار حتى الاعتبار الديمقراطي ذاته.

وهكذا تمثل الديمقراطية عنوانا ضخما لممارسات الإقصاء والتهميش السياسي ومحاصرة مكونات الديمقراطية، من أحزاب ومنظمات المجتمع المدني والصحافة، إلى الحد الذي بات فيه الشعار الديمقراطي الذي ترفعه الحكومات العربية، عبئا على الشعوب ونخبها أكثر من كونه طموحا وأملا في التغيير الحقيقي.

المؤسف، أن هذه الأشكال من الممارسة الديمقراطية، تتم حمايتها من قبل القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي أنفقت ملايين الدولارات من أجل تسويق المطلب الديمقراطي في العالم العربي.

لقد بات واضحا أن نموذج عديد الأنظمة العربية في الإصلاح السياسي، يمكن اختزاله في عنوان يبدو مخيفا، لكنه يعكس الواقع في مرارته وهو "الدم.. يوقراطية".

وعندما تفرغ السجون من المعارضين، وتطلق حرية التعبير، وترفع الوصاية عن الإصلاح السياسي، ويكون الطريق إلى القصور الرئاسية عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع بلورية الصنع، ويحال المعذِّبون في الأرض على المحاكم، وتكون الدساتير نصوصا تتمتع بنوع من القداسة وليست قصيدا يجري تعديله في كل آن وحين، ويفتح القضاء بشكل مستقل لتصفّح ملفات رانت عليها عقود من الفساد، عندئذ يمكن للشعار الديمقراطي الذي ترفعه الأنظمة أن يكون له معنى وموسيقى وطقسا خاصا.