مع أن مقولة “التاريخ لا يُعيد نفسه” تتمتع بقوة رواج شعبية كبيرة تجعلها تتردد باستمرار وتُعامل وكأنها حقيقة ثابتة ومطلقة، إلا أنها مقولة مراوغة تحتاج إلى الكثير من التدقيق والتمحيص كونها تنطوي على إمكانية الوقوع في مغالطة عظيمة ذات تبعات جسيمة. صحيح أن التاريخ لا يُعيد نفسه إذا تم التعلم الإيجابي من تجاربه السابقة وتلافي الوقوع في السلف من أخطائه كي لا تتكرر. حينها يكون مسار التاريخ خطياً، تصاعدياً، وتراكمياً. ولكن صحيح أن التاريخ يمكن أن يُعيد نفسه ويكرّر ذاته إن لم يتم الاتعاظ من سوابقه وتلافي الوقوع في ما تم اقترافه من سلبيات وأخطاء سابقة. حينها يكون التاريخ دائرياً، لولبياً، واستعادياً. فالماضي يمكن أن يُشكّل عبرة للحاضر والمستقبل، كما يمكن أن يكون مرآة انعكاسهما. وتأسيساً على ذلك يمكن التأكيد على أن المستقبل ليس قدراً محكوماً دائماً بمقيدات ومحددات الماضي، وأن التاريخ لا يكرّر نفسه بصورة تلقائية وروتينية إلا عند المستنكفين عن التعلم من عبره. عندئذٍ يكرر التاريخ نفسه، ودائماً على شكل مأساة.

صحيح أن أعتى وأقوى القوى الدولية قامت لفترة تفوق عن القرن من الزمن حتى الآن بمساندة الحركة الصهيونية، ومن ثم “إسرائيل”، بهدف تهويد فلسطين وإلغاء وجودها وكيانيتها العربية. وصحيح أن اجتماع هذه القوى ضد الشعب الفلسطيني والعربي كان عظيماً وأدى إلى الفقدان التدريجي لفلسطين. ولكن يجدر الاعتراف بأنه صحيح أيضاً أن نجاح المشروع الصهيوني الغربي في الاستيلاء على فلسطين لم يكن ليلاقي هذا النجاح لولا توافر الأرضية الداخلية الملائمة بين الفلسطينيين تحديداً، والعرب عموماً. فالجبهة الداخلية لم تكن قوية ومتماسكة لتتمكن من درء المخاطر الخارجية، بل كانت تئن تحت وطأة العديد من التفسخات والشروخ السياسية والاجتماعية، الحزبية والقبائلية والحمائلية والمناطقية، والتي أعطت الطامعين الخارجيين كل المنافذ المناسبة للاختراق والتفتيت.

كانت المناكفات الداخلية المترتبة على الاصطفافات العائلية في فلسطين، والتي وجدت لها أصداء عند العرب، أساس الهزيمة في كل الهبّات الشعبية التي وقعت خلال العشرينات والثلاثينات من القرن المُنصرم، وأدت إلى استهلاك مخزون القُدرة الفلسطينية لتسقط فلسطين في الأربعينات فريسةً سهلةً وسائغة للسيطرة الصهيونية. كانت المناكفات الفلسطينية الداخلية تجيّر الطاقة الشعبية الكبيرة والمعطاءة لمصالح فئوية خاصة وضيقة، تمثلت حينها بالعائلية الانغلاقية، في حين كانت الحركة الصهيونية موحدة في هدفها، وحتى وإن اختلفت حول كيفية تحقيقه كانت تتقاسم الأدوار ببراعة. كان لديها أيديولوجية قوية مُجمَّعة، وضوح بالهدف، وتنظيم متماسك، وانتماء والتزام قويان، في حين كان الفلسطينيون يعيشون التفكك والتفسخ ولم تنجح أُطرهم “الائتلافية” في تجاوز الحساسيات، بل والعداوات الشخصية والعائلية، التي حكمت نظرتهم وتحركاتهم. لذلك لم تتمكن التضحية الفلسطينية العظيمة التي سطّرها تدفق اندفاع شعبي كبير ومستمر استشعر بالخطر المصيري الذي يُهدد الأرض والشعب، من التحوّل إلى نضالٍ فلسطينيّ منظم وقادر على المجابهة. نتيجة لذلك، وبسبب المناكفات الذاتية المستمرة، اشتغلت القيادة الفلسطينية بذاتها ولذاتها، وكانت النتيجة خسارة الجزء الأكبر من فلسطين عام 1948.

مع أن الاعتبار الدوليّ والإقليمي للقضية الوطنية الفلسطينية استعيد بواسطة منظمة التحرير الفلسطينية، وبجهود شخصية كبيرة للرئيس الراحل ياسر عرفات، إلا أن مسلسل المناكفة الفلسطينية الذاتية لم يتوقف على الإطلاق، بل بقي يمتص جُلّ الطاقة الموجودة ويُفتتها ويستهلكها داخلياً. واتسم التاريخ السياسي الفلسطيني خلال النصف الثاني من القرن الماضي بالكثير من المُماحكات والصراعات والانشقاقات وتصارع الولاءات المفتوحة على الساحة العربية. ومع عدالة القضية والتضحيات الفلسطينية الكبيرة والمستمرة إلا أن التاريخ أعاد نفسه بخسارة البقية المتبقية من فلسطين وأقلمة الذات على القبول بالأمر الواقع المتحول باستمرار للمصلحة “الإسرائيلية”، والذي أوصل إلى الاعتراف ب “إسرائيل” دون حتى اعترافها بالحقوق الفلسطينية.

الآن ونحن أمام تنفيذ مخطط” “إسرائيلي” مُعلن ومُرسّم يستهدف بوضوح فرض تسوية أحادية الجانب على الفلسطيني، تنهي إمكانية تحقق إقامة الدولة الفلسطينية على ما تبقى من فلسطين عام 1967 (أو على ما تبقى من ذلك بعد الاقتطاعات الاستيطانية)، نتناسى ذلك وندخل في دائرة استهلاك أنفسنا من جديد في دائرة مماحكات ومناكفة داخلية جاءت جرّاء انتخابات فلسطينية أُجريت أساساً لتُخرج الوضع الفلسطيني من مأزق داخلي، فأوقعته على ما يبدو في أشدّ وأقسى.

إذا ما حيدنا الاحتلال “الإسرائيلي” وتأثيراته السلبية المباشرة، علينا أن نعرف ونقتنع أن التحول الديمقراطي لا يتم بمجرد إجراء انتخابات حرة ونزيهة وذات صدقية، حتى وإن فازت المعارضة فيها بأغلبية مطلقة. فهذا مجرد حدث والتحول هو عملية. لذلك فإن التحول الديمقراطي يتطلب بعد إجراء الانتخابات القبول الفعلي بنتائجها والقيام بنقل السلطة بصورة سلسة وشفافة. بخلاف الادعاء، هذا لم يحصل حتى الآن، بل إن المُجريات على أرض الواقع، وليس وفق الإجراءات البروتوكولية، تُنبىء أن المُناكفة هي الأساس الفعليّ للتعامل بين الحركتين الرئيسيتين في الساحة السياسية الفلسطينية، فتح وحماس. هذا سيؤدي إن استمر إلى استقطاب مُدمّر للمشروع الوطني الفلسطيني برُمّته.

يُفرض علينا جرّاء هذا الاستقطاب أن ننشغل بصغائر الأمور، من خلاف يتفجّر حول مكتب أو وظيفة أو موقع، بينما تستمر “إسرائيل” في تنفيذ مشروعها الاستراتيجي في التفتيت والاستيطان وخلق الكانتونات. مماحكات فلسطينية صغيرة لا ترقى لأن يُفكَّر فيها أو لأن تُشغل بال القيادة الفلسطينية لو أن المصلحة الوطنية العُليا هي الأساس المُحرك لتصرّف الساسة الفلسطينيين. نُدخل أنفسنا في صراعات داخلية ثانوية ونترك الصراع الأساسي يلتهمنا بالجملة.

فلسطين المتبقية من احتلال عام 1967 لم تتحرّر بعد، ومن يظن بأن قطاع غزة قد تحرّر فإنه ينسى أن الضفة هي أساس المعركة الصراعية الآن مع الاحتلال “الإسرائيلي”، وينحو جراء هذا النسيان إلى إعادة تِكرار تشكيل حكومة عموم فلسطين التي أقيمت بعد النكبة عام 1948 ولم تُعمّر طويلاً. نحن ما فتئنا نُكرّر الأخطاء ولا نتعلّم من التاريخ، ولا نستشعر الخطر إلا بالشعارات. إن بقينا نسير على خط المناكفات الفصائلية فلن يندثر طرف فلسطيني ويربح طرف آخر، بل سنغوص جميعاً في الأعماق ونغرق.

التاريخ يُعيد نفسه عند الذين لا يريدون التعلم من سياقاته. الرجاء عدم التكرار.