كأنه لم يكن ينقص المعارضة السورية، التي تتهادى يمنة، ويسرة من فرط جرعات إعلان قندهار الديمقراطية الزائدة، الذي فرّقها شيعاً، وقبائل، وعشائر، وبطوناً، وأفخاذاً وجماعات متناحرة، و"حردانة"، ومنسحبة، وواجمة، إضافة لزلازل الانشقاقات وارتداداتها، وتوابعها السياسية، سوى الدولارات التي أمعنت في حالة التلاشي، والتراخي و"الدوخان"، حتى تعرض الإدارة الأمريكية مساعدتها الضحلة، كضحالة إستراتيجيتها، وسياسيتها العمياء، والمتمثلة بمبلغ الخمسة ملايين دولار أمريكي فقط لا غير. وقد أضيفت هذه القضية إلى جدول أعمال المعارضة المثقل بالمنغصات، وأصبحت إحدى أهم القضايا المطلوب اتخاذ مواقف حازمة حيالها تماما، كالموقف من قوانين الطوارئ، ومستقبل الوطنية السورية، وسجناء الرأي، والقانون 49، وما عداها من متراكمات. وقد ظهرت جملة من المواقف المتناقضة جراء إطلاق هذا البالون الدولاري الأمريكي الجديد في الفضاء السوري الضبابي والمضطرب هذه الأيام، والمفتوح على مختلف الاحتمالات والتكهنات. و لقد تبلور موقف عام إزاءه تجلى برفض نمطي تقليدي من معظم الأطياف التقليدية لهذا العرض السخي، والصحوة الحاتمية في ربع الساعة الأخيرة، ومنهم من فتح عينا على الدولارات التي تسيل لها اللعاب، وعينا على الخوف من ردات الأفعال وخاصة الأمنية منها. والواضح حتى الآن، والمأمول – أمريكيا- من هذه الدغدغة الفاضحة، هو:

عدم حسم الإدارة خياراتها نهائيا لجهة التعامل مع النظام، الذي يبدو أنها لم تنفض أيديها منه، لا بل لم تنو غسلهم حتى الآن، وذلك باستمرار اللعب على مختلف الحبال، وإن هذا التذبذب والتأرجح في المواقف، والمرتبط كليا بضبابية الأوضاع في المنطقة وعدم وضوح الرؤية ، يؤكد بأن الإدارة الأمريكية في حالة مراوحة في المكان، وربما أصبحت أكثر حذرا، وأنها غير واثقة من خطواتها التالية.

التلويح بأنها موجودة في قلب المعمعة وعلى كل الجبهات، والإيحاء الكاذب دوما بأنها تدعم قضايا الحريات، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وشعوب المنطقة، والتي كان لها الفضل الأكبر في قمعها، ودعم أنظمة الاستبداد عبر ستين عاما من الصمت، والمشاركة، والتأييد لكل تلك السياسات التي أفضت إلى خرائب سياسية، وكوارث بالجملة، وممالك متهالكة قابلة للانفجار.

إرسال رسالة تهديد مبطن إلى النظام، الذي يبدو أنه حسم خياراته باتجاه إيران، وحزب الله، وحماس، والمواجهة بشكل عام. كل ذلك في خضم الكثير من التموجات، والتجاذبات السياسية التي لم يبت الأمر حيالها حتى الآن، والمتعلقة بعمل لجنة التحقيق الدولية، والمحاولة الحثيثة لإعادة النظام إلى حظيرة الطاعة، والتعاون، وتنفيذ الأوامر و الإملاءات، عبر إلقاء هذا الفتات المتعفن على الطاولة فيما هي دعوة غير مباشرة للتفاوض على ترتيبات معينة من تحت نفس الطاولات.

التلويح للنظام السوري بوجود احتياط استراتيجي، ومخزون جاهز لها داخل المعارضة ممن هو مستعد دائما للتعامل، والتعاون، ومن لم يزل يعول على سياسة الإدارات التي لا يصح أن نضعها سوى تحت عنوان واحد وعريض وهو المصلحة والخذلان. و تجلى ذلك حين هبّ الدولار يون، وتجار الشنطة السياسية المتجولون في عواصم القرار، للتهليل والترويج لهذه المبادرة واعتبارها خلاصاً، وكفارة سياسية يجب قبولها بدون أية شروط مسبقة.

محاولة ضم سوريا نهائياً، وبشكل رسمي وعلني إلى المحور واضح الملامح، وإشراكها كليا في مشروع الشرق الأوسط الكبير الضامن الوحيد، والأخير لبقاء واستيعاب إسرائيل.

اعتبار هذا المبلغ الضحل واحدا من أساليب الضغط والتصعيد المختلفة التي دأبت الإدارة الأمريكية على استخدامها وذلك للحصول على تنازلات، وتسويات سياسية، وليس من أجل سواد عيون الشعوب، أو وحبا، وهياما بها على الإطلاق.

دق إسفين في صفوف المعارضة وتشتيتها، باستثناء الدولارية منها طبعا، ومحاولة الدخول على خطها، وحجز مكان مؤقت لها، تحسبا لما هو قادم من أيام، في ظل معطيات تتراكم يوميا، وتنبئ بأن شيئاً ما حاصلاً لا محال، وأن كل هذا الدخان المتصاعد ليس حتما بلا نار.

وفي الحقيقة، وبما أن اللعب صار على المكشوف، فما تريده شعوب المنطقة عموما، لا هذا ولا ذاك، ولا حتى حفنات الدولارات، التي لا تشتري عِزَبَاً صغيرة في بازارات الأوطان، ولكن المطلوب فعليا هو أن ترفع الإدارة الأمريكية أيديها وغطاءها، ووقف دعمها، وتأييدها العلني الاستفزازي لأنظمة الاستبداد، ليتأكد للجميع، بما فيهم الإدارة نفسها، أن الناس ليست بحاجة لأي سنت أمريكي واحد، وسيتبين للعميان و"العوران" لاحقا كم هي هشة وضعيفة هذه الأنظمة، وسريعة الزوال والفناء. ولتوفّر عندها الإدارة الأمريكية دولاراتها الشحيحة لضحايا الفقر، وتوحش، وتغول الرأسمالية العمياء، ومشرّدي أوفيليا، وكاترينا، وأحزمة الفقر وسكان الأنفاق، أو تستثمرها لتلميع صورها المشوهة، التي صارت بحاجة لأكثر بكثير من الدولارات، وربما إلى ميزانيات كاملة لن يكفيها كل ما في مجلس الاحتياطي الفيدرالي من تريليونات، وذلك بعد سلسلة الحماقات الهوجاء، والمغامرات الخرقاء، والسياسات الرعناء، التي مارستها، وارتكبتها في المنطقة على مر عقود من الزمان.