شاءت الأقدار أن نشهد وسط أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول تطورين لايمكن أن نغفل دلالاتهما‏,‏ التطور الأول هو احتجاج الأردن علي تصريحات أدلي بها قائد المنطقة الوسطي في الجيش الإسرائيلي‏,‏ وجدتها عمان مسيئة للبلاط الهاشمي‏,‏ فطلبت اعتذارا رسميا عنها‏,‏ والتطور الثاني هو الحكم بالسجن ثلاث سنوات في النمسا علي المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفنج‏,‏ لنشره معلومات وجدتها المحكمة مسيئة لليهود لأنها تنكر وقوع الهولوكوست‏.‏

وربما كان القاسم المشترك بين هذين التطورين‏,‏ هو التناقض الصارخ مع موضوع الرسوم الكاريكاتورية وما تبعها من رد فعل غاضب في جميع أنحاء العالم الإسلامي‏,‏ ففي حالة الرسوم لم تتحرك أي من الحكومات العربية تحركا رسميا يعبر عن الاحتجاج ويطالب بالاعتذار‏,‏ فيما عدا ما بذلته الجهود الدبلوماسية المصرية في هذا الشأن‏.‏

أما فيما يتعلق بالتطور الثاني‏,‏ فقد كان التفسير الذي قدمه الغرب لنشر الرسوم المسيئة للرسول‏,‏ هو أنها كانت من باب حرية التعبير‏,‏ لكنا وجدنا تلك الحرية قد خرجت من الشباك حين تعلق الأمر باليهود فأدانت المحكمة المؤرخ البريطاني الذي وجدت أنه أساء لتاريخ اليهود وإن لم يكن قد أساء لنبيهم أو لدينهم‏.‏

فإذا عدنا لرد الفعل الغاضب الذي عم جميع الدول الإسلامية‏,‏ نجد أنه جاء معبرا عن الشارع الإسلامي وليس عن الأنظمة الحاكمة‏,‏ ملكية كانت أو غير ذلك‏,‏ فقد كان الشارع هو الذي خرج بالمظاهرات وهو الذي اعتدي في بعض الدول علي مقار السفارات الغربية التي نشرت في دولها الرسوم المذكورة‏,‏ ووسط هذه الهبة الجماهيرية‏,‏ التي عمت جميع البلاد الإسلامية من المغرب إلي باكستان‏,‏ والتي امتدت أيضا إلي الجاليات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم من أوروبا إلي الهند وإفريقيا‏,‏ لم نسمع قط أن حكومة عربية أصدرت احتجاجا رسميا علي هذه الرسوم أو أنها طالبت باعتذار رسمي عنها‏,‏ حتي أن بعض الدوائر الغربية أعربت عن اعتقادها بأن بعض الأنظمة العربية شجعت حملة الغضب الشعبي‏,‏ في محاولة منها لإلهاء الجماهير عن مشكلاتها الداخلية‏.‏ أما علي الجانب العربي‏,‏ فقد عبرت بعض الآراء عن اعتقادها بأن الأنظمة العربية التي يعتمد البعض منها في بقائه علي الغرب ليست في وضع يسمح لها باتخاذ أية مواقف احتجاجية إزاء الدول الأوروبية‏,‏ أو بطلب اعتذار رسمي‏,‏ ولو فعلت ذلك لما استجاب أحد لطلبها‏.‏

ولقد أدلي الميجور جنرال يائير نافيه قائد المنطقة الوسطي في الجيش الإسرائيلي والمسئول العسكري عن الضفة الغربية المحتلة‏,‏ بتصريحات تحدث فيها عن ضعف النظام الأردني‏,‏ وقال إن الملك عبدالله قد يكون آخر ملوك البلاط الهاشمي في الأردن‏.‏

فسارعت الأردن بالاحتجاج رسميا علي هذه التصريحات وكأن تصريحات الجنرال الإسرائيلي‏,‏ وليس الرسوم الدنماركية‏,‏ هي التي تعرضت لرسول الإسلام‏,‏ وطلبت الأردن اعتذارا رسميا‏,‏ فما كان من إيهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي إلا أن اعتذر بنفسه رسميا عما صرح به الجنرال الإسرائيلي‏,‏ وهكذا أثبتت الأردن أن الأنظمة العربية بمقدورها الاحتجاج وطلب الاعتذار أيضا‏,‏ ولكن في القضايا التي تراها تستوجب ذلك‏,‏ وهو ما فعلته الأردن فجاءها الاعتذار من رئيس الحكومة الاسرائيلية الذي أعلن اعتذاره لجلالة الملك وللشعب الأردني‏,‏ وأكد إدانته لمثل هذه التصريحات التي قال أنها لا تمثل جملة وتفصيلا سياسة الحكومة الإسرائيلية ولا موقفها الرسمي‏.‏

أما التطور الثاني‏,‏ فقد قذفت به الأقدار ساخرة من تمسك الغرب بمبدأ حرية التعبير وما يستتبعها من حرية الفكر وحرية البحث والدراسة وحرية الاختلاف‏,‏ وهي الحريات التي ساقها العقل الغربي كمبرر لنشر الرسوم الدنماركية‏,‏ والتي تماثلها رسوم أخري كثيرة ربما كانت أكثر عنفا تمس جميع رموز الدين المسيحي الذي تدين به أوروبا مثل رجال الدين والفاتيكان بل وتمس السيد المسيح نفسه‏,‏ وقد مضي المنطق الغربي يحاول شرح الموقف للعقل الإسلامي فيقول‏:‏ كيف ونحن نملك حرية التهجم علي نبينا نفسه إيمانا بحريتنا في التعبير عن أي فكر‏,‏ أن نحظر التعرض لنبي الإسلام؟‏!‏

لكن الذي حدث مع ديفيد إيرفنج يثبت بكل أسف أن تلك الحرية تتوقف تماما اذا كان الأمر يخص اليهود وليس المسلمين أو حتي المسيحيين‏,‏ فقد وجدت المحكمة النمساوية‏,‏ فيما عبر عنه المؤرخ البريطاني من تشكيك في الهولوكوست ما يستوجب الإدانة‏,‏ بينما لم تجد أي محكمة أخري في أوروبا أن التهجم علي رمز الدين الإسلامي يستوجب حتي المساءلة القانونية‏.‏

ولمزيد من سخرية الأقدار‏,‏ فقد أعلن إيرفنج في أثناء محاكمته‏,‏ أنه كان علي خطأ فيما ذهب إليه من إنكار وجود أفران لحرق اليهود في معسكر أوشفيتز النازي في بولندا‏,‏ لكن المحكمة قالت إن إيرفنج قد أصبح رمزا للعداء للسامية ولمن ينكرون وقوع الهولوكوست فرأت ضرورة معاقبته بالسجن ثلاث سنوات برغم رجوعه عن رأيه هذا‏.‏

وكان ديفيد إيرفنج‏(67‏ عاما‏)‏ قد نشر في كتابه حرب هتلر أن معسكر اعتقال أوشفيتز لم تكن به أفران لحرق المعتقلين‏,‏ لكنه أوضح للمحكمة أنه لم يعد يقول ذلك الآن بعد أن اطلع علي الملفات الخاصة لأدولف ايخمان القائد النازي الذي نفذ المحرقة‏,‏ ثم قال إيرفنج بالحرف الواحد النازيون قتلوا بالفعل ملايين اليهود‏.‏

وقد وصل ايرفنج إلي النمسا ليلقي محاضرة فتم إلقاء القبض عليه‏,‏ بناء علي أمر اعتقال قديم صادر بحقه منذ عام‏1989‏ وقت صدور كتابه واتهامه بإنكار الهولوكست‏,‏ وهي التهمة التي تصل العقوبة فيها حسب القانون النمساوي إلي عشر سنوات‏,‏ وقد تم اقتياده إلي المحكمة ويداه مكبلتان في الحديد‏,‏ وقال وهو يغادر قاعة المحكمة والقيود مازالت في يديه‏,‏ إنه مصدوم وأن محاميه سيسعي لاستئناف الحكم‏.‏

والآن كيف للمسلمين أن ينظروا الي هذين التطورين اللذين شاء القدر أن يطرقا بابنا قبل أن تهدأ العاصفة التي فجرتها تلك الرسوم الدنماركية؟ كيف لهم أن يقبلوا عجز حكوماتهم عن الدفاع عن القضايا التي يراها المسلمون حيوية لكنهم يتصدون بكل حزم للقضايا التي تتعلق بأنظمة الحكم وليس بقدسية الدين؟ ثم كيف للمسلمين أن يقتنعوا بهذا التقديس الذي تكنه الحضارة الغربية‏,‏ لمبدأ حرية التعبير‏,‏ وهو المبدأ الذي يختفي تماما إذا تعلق الأمر بما يطلق عليه الغرب العداء للسامية؟ كيف يقبل الضمير الإسلامي أن العداء للدين مقبول ومشروع تحميه قوانين حرية التعبير‏,‏ لكن العداء للسامية مجرم بالقانون أيضا ويساق من تثبت عليه تهمته إلي السجن؟‏!!‏

فليجاوبنا الغرب علي ذلك إن كان يريد فعلا لعاصفة الغضب هذه أن تهدأ‏.‏