تكلمت وزيرة الخارجية الأميركية الدكتورة كوندوليزا رايس خلال الشهرين الأخيرين كما لم تتكلم من قبل، كماً أو نوعاً. تكلمت في جامعات وندوات ومؤتمرات أكاديمية وصحافية وعلى شاشات التلفزيون، وفي أحيان كانت تتكلم أكثر من مرتين في اليوم الواحد. وكان لديها ما تقوله. وبذلك تفوقت على من سبقوها في هذا المنصب ومعظمهم كان همه الظهور وترديد كلام قلما احتوى جديداً أو مثيراً للتفكير. سيحسب للدكتورة رايس أنها أضافت إلى «الديبلوماسية» مفاهيم ومصطلحات مبتكرة، بعضها يحتوي أفكاراً جادة وخطيرة، وأعتقد أن الكثير منها سينفذ أو بدأ تنفيذه فعلاً. قالت ما قالت، فتولد عندي الشعور بأن العالم قد يشهد ممارسات أميركية جديدة على صعيد العمل الخارجي، قليل منها سينتقل بالعدوى أو المحاكاة إلى ديبلوماسيات دول أخرى، والكثير منها سيبقى احتكاراً للديبلوماسية الأميركية لأنه يحتاج إلى نفوذ دولة فوق الدول أو الدولة مستعدة لأن تقفز فوق الهامش الفاصل بين وضع الدولة الأعظم والوضع الإمبراطوري.

توقفت طويلاً أمام محاضرة الدكتورة رايس في جامعة «جورج تاون» وما أدلت به في الموضوع نفسه في شهادتها أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ عند تدشين انطلاق مفهوم «الديبلوماسية التحويلية» Transformational Diplomacy. كانت آخر علاقة لنا بعمليات التجديد في الديبلوماسية الأميركية حين اختير نهج الديبلوماسية العامة، وتصور المحللون وقتها أن الأميركيين باختيارهم هذا يتجاوزون خطاً أحمر في القانون الدولي كان يقيد حرية الديبلوماسيين في الاتصال بمواطني الدولة المضيفة ومؤسساتها. وفي ظل الديبلوماسية العامة رأينا ديبلوماسيين أميركيين يتجولون في مكاتب وأروقة مباني حكومات محلية، أو يفتشون عليها، ويراقبون سير العمل في مشروعات ري، أو رعاية صحية، أو تطوير تعليم في قرى ونجوع تمولها معونات أميركية. وصرنا نسمع ما يشبه التوجهات في شؤون سيادية صدرت من ديبلوماسيين أميركيين. ثم أعلنت الدكتورة رايس هذا الشهر أن الديبلوماسية العامة ليست أكثر من بند واحد بين بنود بعضها أهم في خطة الديبلوماسية التحويلية.

تفصح الخطة الجديدة عن النية في إعادة هيكلة وزارة الخارجية الأميركية بحيث يتوجه الثقل الديبلوماسي في الخارج إلى «مدن وأقاليم أكثر» في دول صاعدة مثل الصين والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل، وفي دول يهددها الفشل والتطرف قبل أن «يتمكن منها الإرهاب» لتفادي ما حدث في أفغانستان. المطلوب حسب هذه الخطة تكثيف الوجود الديبلوماسي الأميركي في أماكن جرى العرف أن تكون غير جاذبة للديبلوماسيين بسبب مشقة الحياة فيها أو التهديدات المحتملة، ولذلك طلبت الدكتورة رايس من مجلس الشيوخ تخصيص تعويضات مالية أكبر للديبلوماسيين الذين سيتخصصون في العمل في هذه المناطق ويلتزمون تعلم لغاتها وخصوصًا العربية والأوردية والفارسية والصينية. وابتكرت الخطة نظام الديبلوماسيين الذين سيكلفون بأداء مهمات ووظائف في الدولة المعتمدين لديها من مواقع خارج السفارة، بمعنى آخر ابتكرت نظام «الديبلوماسي الحر» على نمط الفارس المنفرد في قصص الغرب الأميركي الذي يعمل من دون حماية من سلطة أعلى وهي السفارة في هذه الحالة، يختلط بالمواطنين أو يندمج فيهم بحكم إجادته اللغة وينفذ تعليمات واشنطن غير مقيد بقيود بيروقراطية كثيرة.

وتقول الخطة أن من مهمات هذا النوع من الديبلوماسيين تدريب المواطنين على بناء الديموقراطية، وتحسين مشاريع رعاية الصحة وإصلاح التعليم والترويج للمبادئ الأميركية، وهي مهمات كان يقوم بها أعضاء فرق السلام قبل أن تصبح من مسؤوليات الديبلوماسية الأميركية، أو بمعنى آخر توسع مفهوم العمل الديبلوماسي ليشمل كل الأنشطة التي يقوم بها مواطنون ومنظمات المجتمع المدني ووكالات المعونة الأميركية خارج الولايات المتحدة. وهذا في حد ذاته تطور جوهري في الديبلوماسية كمهنة هي واحدة من أقدم المهن.

وأضافت الخطة دوراً للديبلوماسية يبدو أنه كان من اختصاصات «البنتاغون» الذي أثبت فشلاً في ممارسته في العراق. يقضي هذا الدور بأن ينشأ مكتب لإعادة البناء والاستقرار في دول ما بعد الصراع، سواء كان الصراع بين الدول أو بين جماعات داخل الدولة. ويتشكل هذا المكتب من تخصصات مختلفة، إذ يضم قضاة ومهندسين ورجال بنوك وقانون وخبراء اقتصاد وشرطة، أي كل التخصصات المطلوبة لتسيير مجتمع منهك أو إعادة بناء مؤسسات ومنظومات دمرها الصراع وأخرى لم يدمرها بعد بينما في تدميرها مصلحة للولايات المتحدة أو «المجتمع الدولي»!

ويلفت الانتباه في هذه الديبلوماسية التحويلية أنها استعارت تقليداً سوفياتياً، إذ جاء في الخطة أن الديبلوماسية الأميركية تنوي انتداب ديبلوماسيين لينضموا كمستشارين سياسيين إلى الوحدات العسكرية الأميركية التي تكلف بأنشطة خارج الولايات المتحدة. يكاد الديبلوماسي الأميركي أن يصير «قوميسيراً» مثل مندوب الحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان ينتدب لمرافقة الوحدات العسكرية الروسية في الداخل أو في الخارج وللإقامة داخل المنشئات الصناعية والتعليمية والإدارية، وأستطيع أن أتصور حجم المشاكل التي يمكن أن تترتب عن هذا الوضع، وبخاصة في ظل التجاذب المحموم في واشنطن بين وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات ووزارة الخارجية ومكتب التحقيقات الفيديرالي.

ولم تكن خطة الديبلوماسية التحويلية التطور الوحيد ذا الدلالة في كلام الدكتورة رايس خلال الأسابيع القليلة الماضية، فهي تحدثت كثيراً عن إصرارها على أن لمجلس الأمن سلطات يستطيع بواسطتها «إجبار» الدول على التعاون. قالت أيضاً - وكررت القول في لهجة أحياناً متعالية وأحياناً عنيفة _ إن السبيل الوحيد ليحصل الشعب الفلسطيني على حياة أفضل هو الاستمرار في العملية السياسية، وأن الدول العربية مطالبة بحرمان «حماس» من كل أشكال الدعم. وقالت أيضاً وبقسوة إن «حماس» لا حق لها في الجمع بين ممارسة العنف والعملية السلمية. وكانت صريحة عندما قالت إن أميركا لن تدعم أي حكومة فلسطينية لا تعلن أنها «وفية» لحق إسرائيل في الوجود وجاهزة لتتفانى في إثبات هذا الوفاء والتنديد بالإرهاب ونزع السلاح الفلسطيني. ويحسب لرايس أنها لم تتناقض، فلم تذكر إسرائيل بكلمة واحدة فيها عتاب أو تأنيب. حملت بكل هذه القسوة على «حماس» والفلسطينيين وربتت بكل الحنان على إسرائيل التي «تريد حماس تدميرها»، تفعل هذا وتأمل في نجاح ديبلوماسيتها في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.

وتقول رايس: «نحن نعيش زمناً غير عادي، حيث انقلبت رأساً على عقب قرون من سوابق اعتادها العالم، نعيش زمناً لا حروب فيه أو صراعات من الدول العظمى». وتقول إن التهديدات الأعظم تأتي الآن من داخل الدول أكثر مما تأتي نتيجة الصراعات بينها. وأميركا تعيش حالة حرب دفعت إليها هذه الظاهرة الجديدة، ظاهرة انعكاس الأوضاع الداخلية في دول بعينها على أمن الولايات المتحدة وسلامتها. وتقضي المصلحة الأميركية بالعمل مع شركاء لبناء دول محكومة جيداً وتقضي أيضاً بأن «نستخدم قوتنا الديبلوماسية ومعوناتها الخارجية لمساعدة المواطنين في الدول الأخرى لتحسين ظروف معيشتهم وبناء أممهم وتحويل مستقبلهم والتعاون مع الحكومات الصديقة لتأمين الحدود ومطاردة العلماء الخارجين عن القانون ووسطاء السوق السوداء لأسلحة الدمار الشامل». هكذا ينجلي أي غموض يحيط بإعادة هيكلة الديبلوماسية الأميركية فالحروب الأميركية المقبلة ستكون ضد أطراف داخل دول وليس بالضرورة مع دول.

هناك بالتأكيد جديد في خطط السيدة رايس لتطوير الديبلوماسية الأميركية، تماماً كما أن هناك بالتأكيد جديداً في خطط وزير الدفاع الأميركي السيد دونالد رامسفيلد لتطوير العمل العسكري. ويبدو أن الجديدان يجتمعان عند عدد من النقاط الجوهرية أولها أن مرجعية خطط الذراعين، ذراع الديبلوماسية وذراع الحرب، هي أحداث نيويورك وواشنطن في 11/9، ثانيها أن أميركا في حالة حرب، وهي حرب طويلة الأمد يعتمد فيها الجانب الأميركي على عمل أفراد أو مجموعات صغيرة عسكرية وديبلوماسية ومختلطة منتشرة في أنحاء شتى من العالم ومندسة في الشعوب برضى حكوماتها أو من دون رضاها، ثالثها أن العمل العسكري وحده غير كاف لصنع النصر أو تثبيته، وبالتالي يجب الاعتماد في الوقت نفسه على الأعمال الديبلوماسية أي المدنية لإعادة البناء بعد المعارك وخلالها، رابعها أن مستقبل الصراعات التي تكون أميركا طرفاً فيها ستعتمد أكثر فأكثر على حروب صغيرة، عملاً بمبدأ أن «حروباً صغيرة تمنع حروباً كبيرة وكثيرة». والمثال هو العمليات العسكرية الدائرة حالياً جنوب الصحراء في إفريقيا ولا يعلن عنها.

يتفق الجانبان أيضاً على نقطة خامسة وهي أن أميركا قد تعجز عن صنع سلام للأجيال المقبلة، ولكنها «تستطيع صنع عالم تسوده الديموقراطية ولا توجد فيه دول فاشلة»، ويتفقان على ضرورة الاعتماد في إدارة العالم في المستقبل من طريقين هما طريق التعاون الهادئ، ويتحقق بتطوير أسلوب إقامة أحلاف مع دول ومجموعات ومنظمات بالمودة أو بالضغط أيهما أكفأ وأسرع، وطريق التوسع في صنع «وكلاء» لأميركا Proxies، حسب تعبير الدكتورة رايس، في كل الدول والأقاليم وتطوير قدراتهم ونفوذهم. وأتصور أن الديبلوماسي والعسكري سيتبادلان الأدوار متنافسين أحياناً وبالتنسيق في معظم الأحيان إن احتاج الأمر.

إن قراءة ما أدلت به الدكتورة رايس في 18/1/2006 ثم في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي في 15/2 ومع الصحافيين العرب المغتربين في أميركا في 17/2 ومع بوب شييفر في12/2 في تلفزيون CBS ومع مارسيل غانم في تلفزيون LBC في 14/2 أو أمام لجنة الموازنة في مجلس الشيوخ في 16/2 وفي المؤتمر الصحافي مع وزيرة خارجية إسرائيل في 8/2، أكدت لي أن الديبلوماسية الأميركية ستستخدم أقصى أساليب «العنف السلمي» مع حكومات العالم الإسلامي وشعوبه، مثل الضغط الذي لا يقاوم، والحملات السياسية والإعلامية التي لا تصد، والحصار الذي لا يفك، وكلها أدوات سلمية ولكن أشد عنفاً من كثير من أدوات الحرب، هو السلام الذي تعتقد إسرائيل وجانب مهم من صانعي السياسة الأميركية أنه نجح مع العرب فيما لم تنجح فيه الحرب. قد تكون الدكتورة رايس على قدر كبير من الذكاء يشاركها فيه بعض قادة خزائن الفكر في الولايات المتحدة، ولكني لا أفهم هدف إصرارها وآخرين، قد يكون بينهم الرئيس بوش، على أن الإسلام دين يغلب فيه المتطرفون والإرهابيون.

يكفي أن نجيب على الأسئلة التالية، أين تحارب أميركا الآن، وعلى من تضغط، ومن تحاصر، وعلى من تفرض العقوبات الاقتصادية أو تهدد بها لنعرف من هو «الآخر» الذي تحشد له واشنطن طاقتيها الديبلوماسية والعسكرية وتضع من اجله استراتيجيات جديدة ومبتكرة لديبلوماسية عنيفة ولحرب طويلة الأمد. تحارب في أفغانستان والعراق، وربما في الساحل الإفريقي الغربي والشاطئ الشرقي. وتضغط على جل الدول العربية والإسلامية. وتحاصر إيران و»حماس». وتهدد الحكومات العربية والإسلامية بإثارة مشكلات داخلية فيها إذا لم تنفذ مطالب إسرائيل وتحمي مصالحها وتؤمن لها حدودها وتعزل حماس والشعب الفلسطيني.

وأعتقد، كما يعتقد الكاتبان دانيل بنجامين وستيفن سيمون في كتابهما «الهجوم المقبل»، أن فشل إدارة بوش في حربها ضد الإرهاب يعود لتوسعها في التدخل في دول أخرى بحجة «نحاربهم هناك لكي لا نضطر إلى محاربتهم هنا»، فالحاصل أن أميركا صارت تحاربهم «هناك» بأكثر من مئة وثلاثين ألف جندي في العراق وألوف من القوات الخاصة في كثير من الدول، ومازالت الدكتورة رايس والسيد رامسفيلد يعدان بمزيد من التوسع والتدخل والعنف واتفق مع تحذير فرانسيس فوكوياما في مقاله المنشور يوم 19/2 في «نيويورك تايمز» من ارتفاع معدل العنف السلمي والعسكري المستخدم في «الاستراتيجية التحويلية» التي قررت الولايات المتحدة انتهاجها، لأنه ببساطة سيولد عنفاً مقابلاً وإرهاباً أشد فتكاً واتساعاً.