يمرّ ما يقارب نصف قرن على أول تجربة وحدوية عربية في العصر الحديث، غير ان الحديث عنها يبدو وكأنه موضوع عن زمن آخر وعصر آخر ومكان آخر.
إن الواقع السياسي سواء على المستوى الوطني او القومي يؤشر إلى خطاب متعارض في مضمونه وشكله عن منطق الوحدة وفكرتها، الامر الذي يجعل التذكير بالذكرى وكأنه خارج سياق الموقف اللحظوي الحاضر وخارج منطقه وخارج سلوكياته. قد يكون احياء ذكرى الوحدة العربية الاولى بين مصر وسوريا في الثاني والعشرين من العام 1958 فيه الشيء الكثير من الحنين لماضٍ انقضى، واستذكار لأحلام تحطّمت وهوت. غير ان الكتابة عن الذكرى يبرره بالمقابل الخوف من الحاضر والخشية على المستقبل.
فعلى مدار نصف قرن وأكثر من الزمن تحوّل المسار الوحدوي إلى الاتجاه المعاكس، واتخذ مداراً مغايراً لمداره الطبيعي، الامر الذي يدعو للتساؤل عن مبرر هذا الخلل وعوامل هذا التحوّل: هل الفكرة الوحدوية كانت <<وهمية>> الى هذه الدرجة؟ أم ان سياسة الوحدويين العرب كانت متخلفة لدرجة أدّت الى هروب الفكرة وابتعادها؟ هل الفكرة الكيانية أقوى من الوحدة وعواملها؟ أم ان قوى الوحدة وأطرها امتصها الواقع المجزأ ودجّنها؟ هل القبول بغياب الفكرة الوحدوية وذبول منطقها هو حقيقة حماية للاقطار والكيانات القطرية؟ ام ان غياب الفكرة الوحدوية خطر على هذه الكيانات ووحدتها الداخلية؟
فهم مغلوط

كثيرة هي التساؤلات التي تستحضرها فكرة الوحدة العربية التي جسّدها المارد العربي الاسمر وحزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1958. غير أن هذه التساؤلات تستثني أهمية حضور القوى <<المعادية>> ودورها في ضربها. لان الوحدة كانت، ولما تزل، تستهدف هذه القوى وتعارضها. فالوحدة مشروع تنموي تحديثي تحرري... للمنطقة العربية ولتلك القوى مشروع معاكس لها.
من هنا تبدو السنوات التي تفصلنا عن أول تجربة وحدوية أقرب لان تكون سنوات ضوئية. فلقد <<نجحنا>> كوحدويين، ولم نزل، في محاصرة الفكرة القومية والفتك بها، كل من موقعه وبحسب مسؤولياته ودوره.
وبعيداً عن تعداد الأسباب التي أوصلتنا الى ما وصلت اليه حالنا يمكن القول إن الوحدويين العرب لم يعوا، بالقدر المطلوب، طبيعة الكيانات القطرية التي ناضلوا ضدها، ولم يفهموها على حقيقتها، ولم يستوعبوا مقدرة هذه الكيانات على تجديد نفسها وتأمين استمراريتها. فقد غالوا جداً في رفضها وانطلقوا بالمقابل من تكريس <<كياناتهم>> حيث هم يستقرون، او يحكمون.

تبعت هذا المنطق ولازمته سطحية واضحة في فهم البنية المجتمعية للاقطار العربية وطبيعة تركيبتها القائمة على عصبيات مرضية وانقسامات مجتمعية حادة. فقد استخفوا كثيراً بهذا الواقع كعقبة أمام فكرتهم الوحدوية. فعمدوا الى تهميشه بداية. غير أنهم سرعان ما تحوّلوا الى جزء منه لاحقاً. فبحجة تفكيكه تحايلوا عليه لتطويقه، فطوّعوا أفكارهم وقواعدهم ليبرروا انخراطهم في مستنقع هذا الواقع، الامر الذي حوّل الجزء الكبير منهم الى حماة لهذه العصبيات فتوسعت حدة التناقض بين منطقهم وسلوكهم.
كما أن الوحدويين العرب أساءوا لفكرتهم من خلال دعوتهم لها. فقد تمّ تقديم الفكرة كمقولة هلامية والتبشير بها كحالة إيمانية. فتحوّلت الى نوع من <<الصنمية>> وابتعدت التجربة والفكرة عن المراجعة النقدية وهمّشوا دورهم بالتحديد في تجميدها وتشويهها وتحريف مسارها.
خطاب ماضوي
واللافت للنظر ان خطاب بعضهم لما يزل على حاله. بحيث يردد خطابات الخمسينيات وكأن الحال لما تزل على ما كانت عليها، وان الوحدة <<قدر>> الامة حاصلة <<عاجلا أم آجلا>>، الامر الذي ساهم في انقطاعهم عن الاجيال الطالعة من جهة، كونهم قدموا لهذه الاجيال خطابات تتناقض مع سلوكها اليومي. وتصرفوا مع جيل الشباب بعقلية أبوية تعود، على اقرب تقدير، الى أواخر القرن التاسع عشر. وهم من جهة اخرى لم يجددوا فكرهم او يقدموا تصورات لمسار تحقيق الفكرة، او تحديد علاقتهم باقطارهم، الامر الذي جمّد الخطاب وكلّسه.

من هنا يبدو أن الوحدويين العرب ينقرضون رويداً رويداً من خلال الأنماط الذهنية التي حكمتهم وحكمت ممارساتهم السياسية. فكيف يمكن للفكرة ان تنمو اذا كان روادها في جفاف؟ وكيف يمكن للفكرة ان تتحقق اذا كان دعاتها انقساميين؟
ان تحميل الوحدويين العرب المسؤولية الأولى او الأهم هنا ليس تجنياً او انتقاصاً من نضاليتهم. بل للقول إنهم لم يكونوا على مستوى الفكرة التي حملوها وبشروا بها وناضلوا من اجلها. وبالتالي لم يرتفعوا الى مستوى الوعي الشعبي في أهميتها وأهمية ونجاح تجربتها وتوسيع دائرتها. لذلك خيّبوا الآمال ونشروا وباء الإحباط وساهموا في اغتيال الاحلام وعمدوا الى تدنيس الافكار.

لذلك يمكن القول ان الفكرة الوحدوية لم تكن وهماً ولم تكن نوعاً من احلام اليقظة، بل <<اننا>> ساهمنا عبر مسار طويل سواء في الحكم ام خارجه الى جعلها موضوعا وهميا وحلما <<مزعجاً>>.
الكل مهدّد
ان الخطورة لا تكمن فقط في ابتعادنا عن الفكرة الوحدوية التي تجسّدت بين مصر وسوريا منذ ثمانية وأربعين عاماً. بل ان للخطورة مظاهر اخرى من أبرزها القول إن تراجع الفكرة القومية هو المقدمة لحماية الوحدات الداخلية، وان اندحار الفكرة الوحدوية هو الضمانة لوحدة الاقطار الصغرى.

اذا كان هذا المنطق له جذوره في الفكر السياسي العربي واذا كان حضوره قد تعزز حديثاً بفضل السلطات الوحدوية على مدار السنوات الماضية. غير ان ازمة هذا المنطق انه يحاول ان يقدم نفسه في ظل الانهيارات الكبرى واهتزاز البديهات الاولية وفشل حكم الوحدويين العرب... على انه الحل السحري لإنقاذ البلاد والعباد. فهل تحمي الاقطار وحدتها في ظل غياب الحد الأدنى من التضامن مع الدائرة الاوسع؟ وهل تفكيك الكل يمكن ان يكون بمعزل عن ضرب الجزء، او في منأى عنه؟ وهل يمكن لأي جزء ان يحمي نفسه في ظل سياسة التشظي المعتمدة اميركياً؟
ان المشروع المطروح اميركياً يستند في تحقيق وحدة الاقطار العربية على ركيزتين، من حيث المبدأ، الاولى التشكيك بالفكرة الوحدوية وعقمها مهما كان شكلها ومستواها <<حتى في حدود التضامن العربي الرسمي>>، والركيزة الثانية تحقيق وحدة الكيانات من البوابة الاثنية والعرقية والمذهبية والطائفية... فالمرور بالوحدة الداخلية في المشروع الاميركي الذي تظهر بوادره في العديد من الاقطار العربية يكون من خلال إعلاء شأن الانقسامات الأولية وتوتيرها ووصفها بمواجهة بعضها بعضاً وفي حالة صراعات دائمة، الامر الذي يجعلنا امام مفاصل خطيرة.

لقد بيّنت التجارب المعاشة ان منطق الوحدة مترابط <<عربياً وقطرياً>>. لذلك فمن المفارقات المؤلمة على الوحدويين العرب اليوم أن يثبتوا حرصهم على وحدة أقطارهم. لان حماية الجزء يخدم الكل مهما كان هذا الجزء مأزوماً. فهل ينجح الوحدويون في ذلك رغم إرث الماضي ومآسيه؟ وكيف؟ وهل يمكن ان يكون القعر الذي نستقر فيه جميعاً محطة <<للتأمل>> واعادة الانطلاق؟ او يبقى محركا لخطاباتنا المتكلسة وشعاراتنا الرنانة؟ إنه تحدٍّ. بل انه التحدّي.