قبل حرب العراق الأخيرة، ساد الظن بأن القسوة كامنة في نظام صدّام حسين فيما المجتمع ضحيّة القسوة. هذه كانت المعادلة البسيطة التي تشاركت الولايات المتحدة وجمهرة ليبراليّة عريضة، غربيّة وعربيّة، في اعتناقها وتعميمها. وما دامت المجتمعات مقدّسة لا تُمسّ، تبعاً لفرضيّة تبسيطيّة تحصر القمع بالنظام، تركّز النقد على صدّام حسين وبعثه.

والمنطق هذا هو القفا، الشبيه-المعاكس، لفرضيّة تبسيطيّة مقابلة يركّز حاملوها نقدَهم على الاستعمار، لا سيما الولايات المتحدة. وبذا يشارك هؤلاء أؤلئك في تجنيب المجتمع النقدَ لأنه المعطى المُسلّم به والماثل فوق الشكّ والنقاش.

وغني عن القول إن صدّام حسين مسؤول عن رفع درجة القسوة في المجتمع، وعن التأسيس، تحت رداء الوحدة القسريّة، بل الوحشيّة، للتفتّت الذي يتفجّر الآن. بيد أن هذا جميعاً لا يلغي مسؤوليّة المجتمع العراقي الذي برهن، قبل صدّام وخصوصاً بعده، على أن مصالحته مع الحداثة السياسيّة، ومع فكرة الوطن-الدولة تحديداً، ليست نزهة عابرة، وأن قابليّة التحقّق التي تحظى بها المصالحة لا زالت أقلّ كثيراً من قابليّة الامتناع.

وإذ يتولّى الدم الغزير الإفصاح عن الحقائق المُرّة وفضح التبسيط الساذج، يفتتح اختتام صفحة الديموقراطيّة والتقدّم العراقيين تجديد السؤال العربيّ: هل من نموذج مرشّح للانتقال التدرّجي والمديد الى الديموقراطيّة؟

يلوح في الظنّ بلدان، أوّلهما يتعرّض لامتحان عسير قد يخرج منه سالماً وقد لا يخرج، والثاني لم يتعرّض بعد لامتحان.

فأما لبنان فتملك الحداثة فيه قاعدة صلبة بالقياس العربي، وفيه بقايا طبقة وسطى وثقافة أصحاب مشاريع، وفيه، أيضاً، بعض التقاليد العلمانيّة في العمل السياسيّ، فضلاً عن التعرّض للحياة الحزبيّة والنقابيّة ومعرفته حياةً صحافيّة متقدّمة نسبيّاً، يوازيها موقع مقبول للمرأة دوراً وحريّةً.

لكن المواصفات هذه تقف في مواجهة احتدام الانقسام الطائفيّ الذي يغذّيه الإلحاق، الطوعيّ جزئيّاً القسريّ جزئيّاً، بصراعات المنطقة. ومن العنصرين المذكورين تتشكّل قوّة مناهضة للتقدّم يصعب التخفيف من شأنها ومن بأسها.

وأما تونس فتملك، ولو بنسبة أقلّ، المواصفات الاجتماعيّة التي يتّسم بها لبنان. ذاك أن الدور الذي لعبه المسيحيّون اللبنانيّون تقليديّاً لعبته، هناك، إصلاحات الحبيب بورقيبة في ما خصّ علمنة الحياة العامّة وحريّة المرأة، تتمةً لتقليد نهضويّ كان أسّسه مبكراً خير الدين التونسي. فإذا أضفنا عمل الاقتصاد التونسي بكفاءة أعلى نسبيّاً من مثلائه في البلدان المجاورة، جازت المغامرة بالرهان على عوامل واعدة مبدئيّاً.

تُضاف ميزات ثلاث تحظى بها تونس ولا يحظى لبنان: فالتوانسة منسجمون دينيّاً ومذهبيّاً، فضلاً عن تجانُسهم اللغويّ والإثنيّ. وهم، الى ذلك، بعيدون عن مستنقع النزاعات المدمّرة للمشرق، الشيء الذي أتاح لبورقيبة، أواسط الستينات، أن يخرج باقتراحه السبّاق لتسوية النزاع العربيّ-الاسرائيليّ. وأخيراً، ثمة درجة من الإجماع حول الوطنيّة التونسيّة أرفع كثيراً من درجة الإجماع المعقود حول الوطنيّة اللبنانيّة.

بيد أن تونس لن تستطيع التصدّي لمهمّة كتلك ما لم تباشر التحوّل من سلطتها الأمنيّة الى دولتها السياسيّة. وهي مهمّة تجعل الانتقال الى الديموقراطيّة، إذا ما كُتب له الإقلاع، موضع مقارنة بما حصل في البلدان التي تجاورها على الضفّة الشماليّة للمتوسّط، حيث أقدمت إسبانيا والبرتغال، بعد رحيل فرانكو وكايتانو، على عبورهما الكبير. أما إذا استحال أدنى عبور، فمضت السلطة في ردعه، ومضى المجتمع في إبداء عجزه عن إحداثه، كنا أمام برهان جديد على أننا مختلفون عن النسق الغربيّ... أسمّينا الاختلاف «صراع حضارات» أم أعطيناه مضامين وأسماء أخرى.

وكائنةً ما كانت الحال، تبقى المجتمعات وثقافاتها مسؤولة بقدر ما يبقى أن الانتقال الى الديموقراطيّة وصفة للحياة، مقابل الديموقراطيّة الفوريّة كما طُبّقت في العراق وكانت، للأسف، وصفة للموت