مضى الآن أكثر من أربعة أشهر على صدور إعلان دمشق ( 16/10/2005). في الغرب، تعتبر المئة يوم الأولى من عمر أية حكومة فترة كافية للحكم على أدائها. وعند صدور الإعلان كنت بين المتفائلين – بحذر – استنادا على الجوهري في هذا الإعلان وهو القطع مع سياسة مناشدة السلطة لتصلح نفسها بنفسها لمصلحة نفسها، وذلك لمصلحة سياسة عنوانها التغيير الوطني الديموقراطي. ومن عوامل التفاؤل أيضا في نص الإعلان تحرره من عقدة العلاقة مع كل من الإسلاميين والأكراد، وأخيرا تحرره من عقدة الاستقواء بالخارج وهاجس إثبات الوطنية أمام نظام يمكن وصفه بكل شيء ما عداها.

لقد تلقى الإعلان ما تلقى من انتقادات، بعضها جزئي محق، وبعضها الآخر عبّر عن انقسام لا يمكن التقليل من شأنه في الجسم الوطني حول الموقف من النظام بصورة جوهرية (ثمة قطاعات ليست موالية للنظام ولا مستفيدة منه لكنها في الوقت نفسه تخشى رحيله لأكثر من سبب). لقد كشف الإعلان أمرا كان مستترا في زمن السياسة الإصلاحية للمعارضة. ولنا أن نستنتج أن القاعدة الاجتماعية للمعارضة تتسع مع سياسة إصلاحية لا تستهدف تغيير النظام، وتضيق مع هذا الاستهداف. لكن السياسة الإصلاحية فشلت تماما بسبب معاندة النظام لأي تغيير. هذا عدا عن تهميش تلك السياسة للتيار الإسلامي. أما الأكراد فإنهم ينوسون بين السياستين منطلقين أساسا من مصالح جزئية. على الرغم من هذه المشكلات الكبيرة، بقي الإعلان يمثل نقلة نوعية يمكن التعويل عليها في سياق الضغوط الخارجية الكبيرة التي يعانيها النظام، وخاصة مأزقه المتعلق بالتحقيق الدولي المحايد في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.

بدأت حال "الإعلان" تتدهور بأسرع من المتوقع: تصريحات تتبرّأ من كمال اللبواني على خلفية لقائه بمسؤولين اميركيين، هجوم على فساد عبد الحليم خدام بعد إعلانه انشقاقه عن النظام، نص التوضيح الذي صدر منذ أسابيع وفيه تراجع عن بعض أهم إيجابيات الإعلان، كالعودة إلى نغمة مواجهة المؤامرة الإمبريالية، وأخيرا البلاغ الصادر قبل أيام حيث إعلان رفض الدعم المالي من أية جهة خارجية، والتنصل من مسؤولية لقاء البيانوني – خدام في بروكسيل.

لا أقول إن المطلوب هو قبول دعم مالي من اميركا. بل أقول تجاهلوا الأمر وكأنه لا يعنيكم من قريب أو بعيد. لا تصدروا من شعور المتهم بتلقي الدعم الخارجي والراغب في إثبات براءته أمام نظام يزحف لنيل الرضا الاميركي. ولا تخلطوا بين ضغوط على النظام مفيدة للمعارضة الوطنية مهما كان مصدرها، والاستراتيجية الاميركية في المنطقة والتي لا عيب في التقاطع الموضوعي معها في هذه النقطة أو تلك، مع ضرورة مواجهة ما يتعارض فيها مع المصالح الوطنية للبلاد. أما التحقيق في جريمة اغتيال الحريري، فهو يخص أركان النظام وحدهم، ومن مصلحة الشعب السوري أن يأخذ التحقيق مجراه وينال الجناة عقابهم العادل. على المعارضة أن تفصل بين مصير البلاد ومصير الجناة المحتملين مهما كانت مواقعهم.

أما لقاء البيانوني – خدام، فلعله أفضل ما جرى حتى الآن في الصف المعارض. وبما أن جماعة الإخوان المسلمين قد وقعوا على إعلان دمشق دون اعتراض من الأطراف الأخرى، يتعلق الأمر إذن بالموقف من عبد الحليم خدام وانشقاقه. غريب أمر القائمين على الإعلان حين يعملون بما يناقض مضمونه: فقد دعا الإعلان صراحة من يريد من أهل النظام إلى الانضمام إليه، مع المعرفة المسبقة بفساد هؤلاء ومسؤولياتهم المتفاوتة عن الجرائم التي ارتكبها النظام طوال عقود. دلوني على فرد واحد نظيف اليد داخل النظام لتبرروا موقفكم من عبد الحليم خدام. ثم كيف يمكن تشجيع آخرين على الانشقاق عن النظام إذا شننتم هجومكم على خدام وقبله على المرحوم غازي كنعان؟ أليس تتابع انشقاقات مماثلة هو الوسيلة الأكثر واقعية لتفكك النظام ورحيله؟ أم أن الوهم يأخذكم حقا إلى حيث ترون في "التضامن مع منتدى الأتاسي يوم السبت الأول من كل شهر" الطريق إلى تغيير النظام؟

قبل البيانوني تبرأتم أيضا من مبادرة رياض الترك للخروج من أزمة التحقيق في جريمة اغتيال الحريري. كانت مبادرة الرجل في رأيي رائعة لكنها خيالية لأنها تفترض لكي تتحول إلى حيز التنفيذ، وجود حد أدنى من المسؤولية الوطنية لدى أهل الحكم، في الوقت الذي أثبت فيه هؤلاء بأنهم يريدون دفع البلاد إلى الهاوية من أجل مصالحهم الضيقة. لو تبنى إعلان دمشق مبادرة الترك لاكتسبت زخما أكبر وأصبحت أقل خيالية. واليوم يتكرر الموقف نفسه من انشقاق خدام ومن لقاء البيانوني به. يا أخي إذا لم يكن لديكم عمل غير التضامن مع منتدى الأتاسي، دعوا غيركم يعمل.