رغم أن الدعوة الى «سورية أولا» ستصيب للوهلة الأولى «بالأذى» المعنوي والعاطفي الكثيرين ممن نشأوا في ظل ثقافة قومية وعروبية، إلا أن ثمة ما هو كامن في الدعوة سيدغدغ الكثير من الحاجات الدفينة للملايين من السوريين، الحاجات التي سقطت أو أسقطت على مدار أكثر من أربعة عقود بفعل التغييب والاستبعاد العقائدي والايديولوجي لها.

نقصد حاجاتنا الأساسية كسوريين، التي كان يجب أن يوليها حزب البعث الحاكم لمواطنيه أولا، قبل التفكير والانشغال بجغرافية بعيدة تقع بين موريتانيا وتنتهي عند حدود جزيرة قطر في الخليج العربي، وقبل الانشغال بطوباوية حلم الدولة العربية الواحدة.

لكن هل كان ذلك الاهتمام وتلك العقائدية التي تغلغلت في مفاصل الدولة والتعليم والتكوين الثقافي وحتى التربية المنزلية خطأ؟ ربما، تكون الاجابة بالنسبة للبعض بنعم، لكن ولأجل ألا نظلم ونجلد أنفسنا و«منظرينا» كثيرا يجب الاعتراف أن الخيار القومي والعربي لم يكن خيارا واكتشافا «سوريا» خالصا، لقد أتى ضمن سياق عام وشامل، وكان في مرحلة ما متطابقا مع طموحات الكثيرين، لا بل ومنسجما مع حركة نهوض وتحرر عالمية, وللدلالة يكفي المرور سريعا على التركيبة السياسية والنظرية للكثير من الأحزاب العربية لنكتشف أننا كنا جزءا من كل ومن مرحلة.

وأيضا ربما هناك من يعتقد أنه لولا الطبيعة العقائدية والخيار القومي العروبي لما كان مقدراً لسورية أن تلعب ذلك الدور الاقليمي المؤثر والكبير الذي تجاوز حجمها، و رغم كل الظروف الداخلية الصعبة، ورغم الاستمرار بتطبيق قوانين استثنائية؟.

هنا لا بد من التأكيد أن الدور الاقليمي لسورية نشأ أساسا في ظل مناخات من الحرب الباردة بين قوتين عظميين هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ومن «الابداع السوري» وقتها في فهم الرئيس الراحل حافظ الأسد لتوازنات ومقتضيات تلك المرحلة، حين عرف جيدا كيف يستفيد من موقع سورية في منطقة حيوية للقوتين ، وفي منطقة كانت لأعوام طوال مسرحا للصراع بينهما، ولا ننسى أن تماس سورية الجغرافي والسياسي، مع بؤرة توتر دائمة هي الصراع العربي الاسرائيلي، بل ربما في قلبها، هو من أهلّها للعب مثل هذا الدور والنجاح فيه خصوصا مع توافر شخصية سياسية مثل الرئيس حافظ الأسد الذي عرف جيدا سر ومكامن قوة موقع سورية من كل ذلك .

اليوم شروط اللعبة تغيرت كما يقال، لا بل ان تغييرات جيوسياسية حصلت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي فرضت نفسها على الجميع ومنهم سورية، لقد بات اليوم من الصعب التنطح للعب دور إقليمي كبير في ظل عالم القطب الواحد، وفي ظل الوجود الأميركي المباشر في الشرق الأوسط، وبعد جملة من الانهيارات والتصدعات التي أصابت الفكر القومي والعروبي على مدار أكثر من أربعين عاما.

إن الدور الإقليمي المطلوب من سورية بعد كل تلك المتغيرات يفترض اليوم أن يكون دورا ذا طبيعة تدخلية ليست سياسية، بل ثقافية اقتصادية خصوصا أن سورية تملك الكثير من الطاقات والثروات البشرية المؤهلة لذلك, فكلنا يعرف أن مقاييس قوة الدولة لم تعد تتعلق بالرقعة الجغرافية، ولا بما تملكه من عتاد عسكري وجنود، وليس بما تملكه من ثروات باطنية من نفط وغيره، إن قوة الدولة اليوم مستمدة من طاقاتها البشرية ومدى استثمار ذلك, ولعل أمثلة لتجارب أنظمة ودول مثل اليابان وماليزيا وإمارة دبي مثال يجب أن يكون مهما بالنسبة لنا.

وعليه، يبدو مستغربا اليوم إصرار البعض على التمسك بخيارات وطموحات «طوباوية» وبخطاب يعطي أهمية وأولوية للآخر والبعيد على حساب أولويات مثل الوطن والمواطنة وحقوق الانسان الأساسية التي لا يمكن البناء لمشاريع كبيرة والتأسيس لدور جديد ومختلف دون الوقوف عندها.

لقد دفع شعبنا على مدار العقود الخمسة المنصرمة ولدواعي المواجهة مع «العدو»، ولأجل متطلبات «القضية المركزية»، ضريبة كبيرة حين تم تخصيص الكثير من الجهود والامكانات المالية والاقتصادية، على حساب الكثير من المتطلبات الضرورية للعيش بكرامة وحياة لائقة, لا بل ثمة من استغل تلك الشعارات «وتاجر» بها، كذلك وتحت عناوين كبيرة، بدت كما لو أنها مقدسة، تم تأجيل استحقاقات سياسية داخلية كثيرة .

فعلى سبيل المثال ، ولأجل دور سوري جديد ومؤثر، يبدو الاستمرار بالعمل بقوانين قديمة مثل قانون الطوارئ بحجة استمرار الصراع مع العدو الاسرائيلي غير مناسب، لأنه بالأساس يقوم على تغليب الهم الخارجي على حساب الاهتمام بالداخل وباحتياجات المواطن الأساسية التي من دونها لا يمكن تحقيق الانتصار في أي معركة خارجية.

وإذا ما كانت هناك ثمة مبررات لوجود قانون الطوارئ في مرحلة ما، فيجب أن نتذكر دائما أن هذا الاستمرار الطويل بالعمل به كان مقدراً له أن يجلب معه أمراضه الخاصة، وأن يتسبب مع الزمن بحصول تجاوزات خطيرة نتيجة التطبيق الخاطئ ومحاولة البعض الاستفادة من المناخات التي أشاعها، مما تسبب لا حقا بجملة من السلوكيات التي نعاني منها كالفساد والبيروقراطية والتزلف والخوف من السلطة والمسؤول و«الحزبي»، باعتبارهم الساهرين والمؤتمنين على «أمن الوطن»، في حين، أن المسألة الوطنية وأمن المواطن مسؤولية الجميع، وفي حين أن «المسؤول» وجد أولا لخدمة قضايا المواطنين والوقوف عند حاجاتهم، وليس لترهيبهم متكئا على قوانين استثنائية, وقبل ذلك كله، فإن متطلبات الدور الجديد لسورية جديدة تتطلب مكافحة مثل هذه الامراض والسلوكيات الناتجة عن مثل هذا القانون,

لقد آن الأوان لأن نلتفت إلى «سوريتنا» التي من خلالها لا يمكن بعد اليوم الاضطلاع بأي دور إقليمي أوعربي من دون الاهتمام بها، ونقصد بـ «السورية» تقوية الجسد الوطني من خلال تحسين شروط العمل السياسي والاقتصادي واعطاء دور أكبر للمجتمع وفعالياته الأهلية بعد أعوام طوال، كان مطلوبا من هذا المجتمع أن يبقى مجرد ارقام لا تتقن إلا التصفيق والتأييد, إننا نملك ما يؤهلنا دائما للعب دور إقليمي وربما عالمي، لكن السر يكمن في فهم نقاط قوتنا وتجاوز نقاط ضعفنا.