نشاط الدبلوماسية العربية المكثف قبيل انعقاد القمة العربية قريباً في الخرطوم, ينضح عن معطيات أغلبها يجعل سوريا الآن أكثر اطمئناناً حيال الاحتمالات المستقبلية في المنطقة,

بعدما أخفقت الى حد كبير زيارة وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى المنطقة؛ إذ لم تتمكن من إقناع الدول العربية التي زارتها (مصر­ السعودية ­ الإمارات العربية) بعزل حركة «حماس», وفشلت في انتزاع تأييدها لأي تحرك أميركي ضد إيران.
ولا تبتعد مواقف مصر التي اصرت على منح «حماس» فرصة لتمارس دورها في قيادة السلطة الفلسطينية, عمّا أعلنته دول المجلس الخليجي, ليظهر هذا الانسجام تنسيقاً عربياً يدفع الأمور في اتجاه فرض رؤيته للحلول الممكنة لتجاوز ما خلفته السياسة الأميركية المتخبطة, في المنطقة. إذ إن ملف العراق والذي كان من ضمن ما حملته رايس للبحث مع الأطراف العربية, بغية الضغط من أجل إيجاد مخارج تلبي الحاجة الأميركية, بمعزل عن ملف العلاقات السورية ­ اللبنانية, بناء على رغبة فرنسية ­ لبنانية, ناجمة من تخوف من عودة الهيمنة السورية على لبنان, وكي لا يتم تسديد ثمن ما يبذل في العراق من حساب لبنان, ليمثل هذا الخلاف عقدة تعوق تحقيق التقدم الذي تسعى إليه الأطراف العربية, إلا أنه بدا واضحاً وجود ميل عربي نحو بحث هذه الملفات معاً, لأن أي حل للمسألة العراقية لا يمكن إتمام أركانه من دون مشاركة سورية فاعلة, الأمر الذي يمنح قوة للأوراق التي راحت سوريا تعيد جمعها استعداداً لجولة مقبلة تعول عليها للخروج من نفق الضغوط الأميركية.

يمكن تحديد تلك الأوراق في نقاط رئيسية عدة أهمها تعزيز تحالفها مع إيران, ضمن محور يجمع حركة «أمل» و«حزب الله» والفصائل الفلسطينية والتيار الصدري في العراق, وهو المحور المناهض للسياسة الأميركية, ومن شأنه ربط صمام الأمان في المنطقة, من جانب ومن جانب آخر يعزز الدور السوري في المنظومة العربية, كحلقة وصل وفصل بين إيران وبين الأطراف العربية المتوجسة من تغلغلها في العراق, وهذا ما فهم من نتائج زيارة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر الى إيران والسعودية وسوريا التي مكث فيها فترة طويلة. فقد ذكرت مصادر إعلامية بأن الصدر طلب من سوريا دعم مبادرة لإنشاء تحالف بين الشيعة العرب والسنة في العراق, وأنه التقى بوفد سني عراقي كان في زيارة سرية لدمشق. حيث يبدي الصدر قلقاً شديداً من تنامي المحاصصة الطائفية وصعود الشيعة غير العرب المدعومين من قوى إقليمية مجاورة. كما طلب من سوريا التوسط لدى إيران للحد من تدخلاتها في الشأن العراقي الداخلي. وسرعان ما تم ترجمة تلك المطالب بدعوات الصدر لدى عودته الى العراق عن طريق طهران إلى لقاء مع هيئة علماء المسلمين لاحتواء الفتنة الطائفية, التي أيقظتها تفجيرات سامراء أخيراً.

من هنا فإن الورقتين العراقية والفلسطينية التي استعادتهما دمشق, دفعت الدول العربية نحو مساندة خيار الحفاظ على استقرار سوريا, لدرء سيناريو الكارثة الذي يلوح في أفق التوتر على الساحات الثلاث العراق ­ لبنان ­ فلسطين. جراء السياسات الأميركية والتحريض الإسرائيلي, فعملت كل من مصر والسعودية للتحاور مع فرنسا للحيلولة دون تفجر الوضع في لبنان, والاحتكام إلى الحوار الوطني, والتفاهم بشأن المبادرة السعودية وبالتحديد بند توقيع اتفاقية أمنية بين لبنان وسوريا, الذي رفضته بشدة بعض الأطراف اللبنانية, وتصر عليه سوريا كشرط لضمان أمنها, بعدما أظهرت أطراف لبنانية عداءً سافراً ضدها, خصوصا أن لسوريا تجربة مع تلك الأطراف, تقوض الثقة بأن لا يتحول لبنان الى ساحة للتآمر عليها, من دون ضمانات قانونية.
ومما يقلل القلق السوري في ما يخص العلاقة مع لبنان, لغاية الآن نتائج المساعي العربية على هذا المسار, فقد تم أولاً تخفيف ضغط الحملة الإعلامية الشرسة التي كانت تقودها بعض وسائل الإعلام العربية, وثانياً التحقيق الدولي بقضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري يجري بسرية تامة, ومن دون أي لغط تصعيدي, ومن المرجح أن يتم فصل هذا الملف عن الملفات السياسية الأخرى.
هذا السيناريو بما يحمله من دلائل انفراج تستند الى معلومات عن توصل الأطراف العربية الى الاتفاق على حل للأزمة في العراق, من خلال إرسال قوات عربية تحل مكان القوات الأميركية, وهو ما ينتظر إعلانه في القمة العربية المرتقبة, في حال تم توفير أرضية سياسية تعزز امكان اتخاذ هكذا قرار, سواء من جانب الدول العربية, أو من الجانب الأميركي.

التحركات العربية تبدو أنها حسمت السير في هذا الاتجاه, وتعمل على توفير الأرضية الملائمة, على الأقل هذا ما ينضح من مسار الاستثمارات في المنطقة, وبالأخص في سوريا, فهناك مساع حثيثة تبذل لتنفيذ الاستثمارات الخليجية بسرعة كبيرة, بالإضافة الى مضاعفة حجم الاستثمارات الإيرانية. وهنا نتوقف عند اجتماعات اللجنة العليا السورية ­ الإيرانية في دمشق بحضور رئيس الحكومة السورية محمد ناجي عطري والنائب الأول للرئيس الايراني برويز داودي, الذي زار دمشق اخيراً على رأس وفد اقتصادي لبحث جوانب التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري بين البلدين وسبل إقامة منطقة تجارة حرة مشتركة, وإمكان إقامة خط نفطي من إيران الى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا, حيث تم الاتفاق على ان يقوم الجانب الايراني بالتنسيق مع المسؤولين العراقيين. ليطرح السؤال هنا نفسه: كيف يتم طرح فكرة هكذا مشروع, دونما وجود احتمالات قوية بأن سوريا وإيران جزء من الحل العراقي؟
كما لا يمكن إغفال تزامن زيارة الوفد الإيراني مع زيارة وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني على رأس وفد اقتصادي وتجاري كبير, لبحث إجراءات تنفيذ العديد من الاستثمارات التي تم الاتفاق عليها بين البلدين, أهمها افتتاح فرع لبنك قطر الإسلامي, وتشديد الوزير القطري على استعداد بلاده لدفع العلاقات مع سوريا في مجال الاستثمار إلى أبعد حد.

ورغم حرص الوزير القطري في بداية زيارته على أن لا يعطي لزيارته طابعاً سياسياً, إلا ان لقاءه مع الرئيس بشار الأسد وتسليمه رسالة من أمير قطر, ومن ثم الاجتماع مع وزير الخارجية وليد المعلم قبل التوجه الى لبنان ولقاء الرئيس أميل لحود, أكد وجود بعد سياسي للزيارة من خلال بذل المساعي لتهدئة التوتر في العلاقات بين سوريا ولبنان, لأن هذا الموضوع يأتي في «مقدمة اهتمامات أمير دولة قطر» بحسب تصريحات الوزير القطري الذي نفى قيام قطر بحمل أي مبادرات أميركية, رافضاً النظر الى زيارته من زاوية توجيه رسالة تضامن مع سوريا, مؤكداً أن قطر تلعب دوراً مساعداً على التهدئة لأن المنطقة لا تحتمل أي «أزمات جديدة إضافة إلى ما فيها», وهذا ما جعل الموضوع العراقي حاضراً في المباحثات نظراً الى أهميته للجانبين. وهو ما يثبت أيضا تشابك المسارين السياسي والاقتصادي, فبعد أسبوع من زيارة الوفد القطري عاد مساعد وزير الخارجية محمد عبد الله الرميحي إلى دمشق, وبحث مع وزير الخارجية وليد المعلم تنفيذ قرار مجلس الأمن 1559 المتعلق بلبنان والملفين العراقي والإيراني. باعتبار أن قطر حاليا هي الدولة العربية العضو في مجلس الأمن, حيث جددت سوريا تأكيدها تنفيذ ما يتعلق بها في القرار 1559, وأن القضايا الأخرى, وأبرزها موضوع السلاح والميليشيات, هي قضايا لبنانية خاضعة للحوار بين الأطراف اللبنانية. وأن مطالبتها بالتعاون في هذا الشأن تتناقض مع دعوة المجتمع الدولي الى عدم التدخل في الشأن اللبناني.