بداية، لا بأس من التنويه بانطلاق الدورة الأولى من <<مؤتمرالحوار الوطني>>، واختتامها أيضاً، في جو هادئ نسبياً، ربما بأكثر ممّا قدّر الناس الذين استقبلوا الدعوة <<المرتجلة>> إليه والتلبية الإجماعية بكل الإجراءات الأمنية التي رافقته وكادت تعطل الحياة في قلب بيروت بتخوّف جدي من تفجره أو تفجيره <<لأغراض في نفس يعقوب>> الذي له نسخ <<لبنانية>> كثيرة.
ببساطة، تلاقى خمسة عشر سياسياً لبنانياً، بينهم قادة أحزاب أو تيارات كبرى، يمثلون بالأساس الطوائف والمذاهب على مبدأ الحوار حول مسائل خلافية جدية، نشر الاختلاف من حولها أو عليها جواً متوتراً لامس في بعض الحالات حدود الفتنة، وأنذر في حالات أخرى بتفجر النظام ومؤسساته، بل البلاد جميعاً، في غمار حرب أهلية لا تبقي ولا تذر..

وصل المؤتمرون إلى تلك القاعة المستحدثة، بالطاولة المستحدثة، للتلاقي بعد بُعد فعلي أو تباعد ناشئ. كان بينهم من لا يعرف العديد من الآخرين إلا بالصورة... وثمة من كان صديقاً للآخر ثم انقلب عليه فصار خصماً. وبوجه عام فهم لم يسبق لهم أن جلسوا إلى بعضهم البعض ليتعارفوا بأفكارهم ورؤاهم وبرامجهم (إن كان لهم برامج)، وكل ما كان بين معظمهم وفي الغالب الأعم إما زيارات تعارف ومجاملة، وإما لقاءات ظرفية في لحظات سياسية معينة تحصيناً للذات في وجه آخرين، أو استقواء بحليف الاضطرار في مواجهة الخصم بالضرورة.
لا يحتاج أي لبناني، مهما كانت درجة اهتمامه أو مستوى ثقافته السياسية، إلى كثير من الجهد ليعرف أن <<شبح>> العلاقات اللبنانية السورية سيكون محور البحث والاهتمام، قبل الحديث عن الاتفاق والاختلاف، وسيخيّم على جو المؤتمرين ويفرض نفسه باعتباره محور البحث منطلقاً وختاماً.
وبالتأكيد فإن موضوع التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لن يكون مثار جدل ومن ثم اختلاف، لأن أحداً لا يملك فضلاً عن أنه لا يرغب في التدخل فيه، ولو بالرأي... ثم إن الجميع مطمئنون إلى أنه يجري في المسار المحدد له، دولياً، خصوصاً بعدما صدرت إشارات توحي بأن عقدة التواصل بين لجنة التحقيق الدولية برئيسها الجديد وبين المسؤولين السوريين قد وجدت طريقها إلى الحل المرضي والمقبول.

البند الثاني على جدول الأعمال الثلاثي البنود، هو القرار الدولي 1559، والذي يشير إلى التمديد بما ينتقص من شرعيته، وإن تركز على نزع سلاح الميليشيات، بغير تمييز، متقصداً نزع صفة المقاومة الوطنية (وهي مشروعة وشرعية في أي قانون، ضد العدو المحتل) عن <<حزب الله>>، فضلاً عن تعرضه لموضوع الوجود الفلسطيني مواربة وبطريقة تسيء إلى الشعبين اللبناني والفلسطيني إذ يكاد يصوّرهما <<خصمين>>، قافزاً من فوق الحقيقة التي توصّف أوضاعهم <<باللاجئين>> اضطراراً إلى أرض غيرهم لأن عدواً للطرفين اقتلعهم من أرضهم ورمى بهم خارجها، بالقوة.
ويتفرّع من هذا البند <<السلاح الفلسطيني خارج المخيمات>>، وهو الموضوع الذي فرض فرضاً كموضوع أول على الصفحات الأولى للصحف ومقدمات النشرات الإخبارية المتلفزة حتى ظن الناس أن قوة مشابهة للأسطول الأميركي السادس، أو فرقة من جيش الاحتلال الإسرائيلي قد اجتاحت لبنان.

وبغض النظر عمّا في هذا البند (حتى لا نقول القرار جميعاً) من تجن على المقاومة، بما يتضمن الإهانة لدماء شهداء التحرير من أبناء لبنان الأصيلين، فإن توظيفه السياسي قد تمّ في سياق <<الحرب>> التي شنّت على سوريا، بعد جريمة الاغتيال التي هزّت لبنان وخلخلت نظامه، وكادت تدمر بتداعياتها الأسس التاريخية الثابتة للعلاقات بين البلدين المتكاملين بالواقع والضرورة والمصلحة: لبنان وسوريا.
إن هذا البند، بصياغته الخبيثة، إنما يقدم <<الحيثيات>> لحروب مفتوحة داخل لبنان، بين اللبنانيين أنفسهم، ثم بينهم وبين الفلسطينيين، وأساساً بينهم وبين السوريين..
وحتى لو بدّل بعض القيادات السياسية رأيهم في هذا القرار، وقد رأوا فيه بداية <<حرب تدخل دولي>> ونادوا اللبنانيين إلى الوقوف في وجه تنفيذه، ثم عادوا يعتبرونه لازمة للتحرير والسيادة والاستقلال!

.. وحتى لو رأى فيه آخرون نصاً ملزماً بوصفه صادراً عن الشرعية الدولية.
فالحقيقة التي لا تحتاج إلى برهان ان تنفيذ هذا القرار الخبيث نصاً وروحاً لا يمكن أن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة: الحرب الأهلية التي تشتبك فيها أطراف عديدة، بحيث يستحيل أن يبقى خارجها أحد.
إذاً، إلى الحوار..
هذا جيد، ولكن الحوار لا يفترض أن يلغي البديهيات، لا سيما الوطنية منها.
إن أمر بقاء رئيس الجمهورية أو خلعه أو إجباره على الاستقاله، لا يمكن فصله عن العلاقة مع سوريا... حتى إن تظاهرة 14 شباط قد طلبت من سوريا أن تسترد <<وديعتها>> اللبنانية ممثلة به..

كذلك فإن دور <<حزب الله>> التحريري يتصل عضوياً بالخطر الإسرائيلي، الذي عرفناه احتلالاً وتدميراً ومذابح.
وبالتالي فهو يتصل بهوية لبنان وبموقعه على خريطة الصراع العربي الإسرائيلي الذي فرضه احتلال فلسطين (وبعض ما جاورها من أراضي الاقطار الأخرى) على شعوب لبنان وسوريا ومصر والأردن، والمخاطر التي يشكلها على الأقطار التي تفترض نفسها بعيدة وما هي ببعيدة عن السيف الطويل للامبراطورية الإسرائيلية.
وهذا الخطر الإسرائيلي الذي يهدد لبنان، ويلزمه بأن يستعد لمقاومته وحماية أرضه (ومياهه وأجوائه من اجتياحاته)، يعني بالضرورة سوريا، التي لم تقبل ان توقع على اتفاق منفرد مع العدو الإسرائيلي، وقد شاركها لبنان هذا الشرف القومي معلناً بكل لسان انه سيكون آخر من يوقع على اتفاق إذعان كهذا..

بمعنى آخر: فإن سوريا معنية حكماً بالتحولات التي تجري في لبنان، ولا بد من ان تطمئن إلى ان جارها شقيقها الصغير لن يتحول إلى <<مقر للتآمر عليها أو ممر للاستعمار إليها>>، على ما قاله الميثاق الوطني لاستقلال الدولة في لبنان.
... خصوصاً ان تداعيات جريمة الاغتيال، بالشبهات التي اثارتها حول مسؤولية سورية ما، (أو تقصير سوري مؤكد) قد أدت إلى <<طردها>> من لبنان شر طردة، ومكنّت قوى سياسية مؤثرة وفاعلة من ان تشن عليها حملة قاسية لم تتوقف عند حدود مسؤولية النظام فيها، بل توسعت وابتذلت لغتها العنصرية بحيث شملت الشعب السوري، فاستنفرت <<الوطنية السورية>> وجعلتها تتخلى عن تحفظاتها وتقف في المواجهة من خلف النظام القائم فيها.
إذاً فالعلاقات مع سوريا مختلة بما يهدد البلدين المتكاملين واختلالها ينعكس سلباً على بيروت ودمشق، في الحاضر والمستقبل. ولا بد إذاً من مواجهة هذا الأمر بمنطق عملي، قبل أن نتحدث عن روح الأخوة..
وهذا سيكون موضوع حديثنا غداً.