لا شك في ان سوريا تراقب بدقة مؤتمر الحوار الوطني الذي بدأ في لبنان قبل يومين. اولا لأن نجاحه يعني توصل اطرافه الى تسويات مشتركة لكل المشكلات الاساسية القائمة في لبنان، واهمها بعد التفاهم على موضوع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الموضوع الرئاسي وسلاح المقاومة والسلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها والعلاقات اللبنانية – السورية.

والتسويات المشتركة تكون عادة نتيجة تنازلات متبادلة من كل الاطراف. وهي لذلك قد لا ترضي سوريا في المطلق وفي هذه المرحلة لانها تعوّل على استمرار المشكلات المذكورة والخلافات بل الانقسامات حولها بغية توظيفها اولا في الصراع الحاد الذي تخوض مع المجتمع الدولي انطلاقا من لبنان. وثانيا لاعادة الاعتبار الى استراتيجيتها اللبنانية التي فرضتها التطورات التي حصلت في لبنان منذ التمديد القسري للرئيس اميل لحود والتي لم يكن فيها مكان لدولة لبنانية مستقلة وسيدة وحرة بينها وبين شقيقتها سوريا علاقات مميزة على كل الصعد.

ولا شك في ان سوريا لم تنظر بارتياح الى عدم موافقة اطراف مؤتمر الحوار او قسم مهم منهم على اشتراك "ممثليها" المباشرين فيه في آخر لحظة ذلك انها كانت تعوّل على خطابهم المبدئي وموقفهم الثابت من كل المشكلات القائمة، اما للحؤول دون التوصل الى تسويات تفرض عليها الاعتراف بالتغيرات التي حصلت في لبنان وتاليا ادخال تغيير على استراتيجيتها اللبنانية الاساسية، واما لاحراج الحلفاء الاقوى لها على الساحة اللبنانية بحيث لا يعودون قادرين على متابعة البحث عن تسويات وخصوصا اذا سادت الحدة المناقشات وتطورت هذه الى "نبش" الماضي وتبادل الاتهامات القريبة منها والبعيدة.

لكن لا شك ايضا في ان سوريا لا تستطيع ان تواجه مؤتمر الحوار الوطني المنعقد منذ يومين. اولا لانه بدأ بعد نجاحها وعبر حلفائها الاساسيين في لبنان في تعديل ميزان القوى اللبناني الذي كان "طابشا" ضدها في الاشهر السابقة فلم يعد عندها اي مبرر للخشية على نفسها وعلى امنها وامن نظامها في لبنان ولا على "القضية القومية" من اتجاه "لبنان الجديد" اذا تم الوصول اليه الى المعسكر المعادي لها. وثانيا لأن اجواء المتحاورين كلهم على تنوع مشاربهم السياسية وانتماءاتهم تشير الى تمسكهم بعلاقة سليمة ومتكافئة بين بلادهم وبينها.

ولا شك ثانيا في ان سوريا لا يمكن ان ترتكب خطأ احباط الحوار الدائر، الا اذا وفر المشتركون فيه او على الاقل بعضهم الحجة لذلك، اولا لان عين المجتمع العربي ممثلا بالمملكة العربية السعودية ومصر والذي اظهر في الاشهر الاخيرة حرصه على سوريا اثناء محاولته مساعدة اللبنانيين على حل مشكلاتهم الداخلية ومشكلتهم معها، على الحوار المذكور وقلبه معه، وكذلك ارادة بذل كل ما يمكن لايصاله الى النجاح. وثانيا لان عين المجتمع الدولي بقيادة زعيمته الاحادية اميركا وبمشاركة فاعلة من فرنسا ايضا على الحوار نفسه وهو على استعداد لتقديم كل ما يمكن بغية تسهيل توصل المتحاورين الى نتائج ايجابية، كما انه على استعداد مماثل للمساعدة في مواجهة من يقرر احباطهم عن سابق تصور وتصميم بغية مواصلة التمرد على المجتمع المذكور ورفض تنفيذ قراراته وبغية مواصلة استعمال لبنان او توظيف مشكلاته وانقساماته في المواجهة الدائرة بينها وبين العالم.

ولا شك ثالثا في ان سوريا تتابع تطورات المواجهة الدائرة بين حليفها الاستراتيجي الاول في المنطقة الجمهورية الاسلامية الايرانية، والمجتمع الدولي. وهي تشير رغم كل الكلام "الكبير" الدولي والايراني الى ان المسؤولين في طهران يبذلون كل ما في وسعهم لعدم وصول المواجهة الى نقطة اللارجوع، ليس خوفا منها بل حرصا على بلادهم ونظامهم وعلى امن المنطقة واستقرارها. وتشير اخيرا الى ان احتمالات التوصل الى تسوية للملف النووي الايراني قد لا تكون مستحيلة على صعوبات هذا الملف. واذا حصل ذلك فان انعكاساته قد تكون كبيرة على المنطقة وتحديدا على لبنان النافذة او الساحة التي مارست بواسطتها ايران دورها الكبير في الصراع العربي – الاسرائيلي، واستطرادا في الصراع العربي (السوري) – الاميركي وذلك من خلال حلفاء مباشرين لها وآخرين حلفاء سوريا. وهذه الانعكاسات قد لا تكون سلبية بمعنى انها قد تدفع اطراف الداخل اللبناني الى التفاهم، وقد تدفع في الوقت نفسه سوريا الى التسهيل انطلاقا من ان ايران الحليفة لن تساوم عليها او على مصالحها المشروعة، علما ان احدا في المجتمع الدولي وفي المجتمع العربي، وتحديدا في لبنان، لا ينكر هذا النوع من المصالح او لا يتنكر له وانما يخشى التوسع في تفسيره الامر الذي لا بد ان ينعكس سلبا على الكيان اللبناني ومسلماته الوطنية.

هل يعني ذلك ان نجاح مؤتمر الحوار الوطني صار مضمونا؟

لا يمكن الجزم بذلك، فالعوامل الخارجية من شقيقة وصديقة وكما هي مفصلة اعلاه يمكن ان تساعد جديا افرقاء الحوار اللبناني للوصول الى نهاية سعيدة لهم ولمواطنيهم. لكن العامل الاهم الذي يسهّل الحوار او يعطله هو اطرافه انفسهم، اي اللبنانيون. فهم امام مسؤولياتهم ربما للمرة الاولى اذ يجتمعون من دون راع او وسيط عربي او دولي رغم متابعة الكبار في المنطقة والعالم ما يقومون به. وعليهم ان يكونوا اولاً صادقين مع انفسهم بطرح المشكلات الحقيقية وليس بالدوران حولها. وعليهم ان يكونوا ثانيا صريحين في الوصف وفي التقويم وفي طرح الحلول او ما يعتبرونه حلولا. وعليهم ثالثا ان يبتعدوا عن سياسة حشر بعضهم بعضا لان المطلوب تفاهم وليس تسجيل نقاط من افرقاء على آخرين. وتحديدا يجب تلافي حشر سيد المقاومة حسن نصرالله والتعاون معه على ايجاد المخارج للمشكلات الصعبة التي يعرف الجميع ان حلها الآن على نحو كامل متعذر، ولكن مع جعل هذه المخارج مفتوحة مستقبلا على الحلول النهائية لان لبنان لا يستطيع البقاء اسير استراتيجيات خارجية وطموحات داخلية غير وطنية. وعلى المسترئسين منهم رابعا الا يربطوا الحوار الدائر بوصولهم الى الموقع الاول في البلاد، او بعدم وصولهم اليه، وان يقتنعوا بان الشخص اي شخص وايا تكن كفاياته وتاريخه لا يمكن ان يكون ضمانا لوطنه لان الضمان هو الدستور والمؤسسات والديموقراطية وان لا احد يحتكر الكفاية او الفهم والنزاهة والشفافية والوطنية والنضال.

هل ينقذ الزعماء والقادة المتحاورون مواطنيهم بعدما كانوا السبب في ايصالهم الى الكوارث والنكبات على مدى 30 سنة؟

العفوية والصدق الظاهران على الاقل اللذان عكستهما صورهم في مؤتمر الحوار توحي شيئا من الامل. لكن الناس يخافون الكامن والباطن عند الجميع. وتجارب الماضي الكثيرة تبرر هذا الخوف.