لم يكن هنري كيسنجر يوما رجلا ’’ سويعاتيا ’’ .لا ولم يخرج يوما عن يهوديته والتزامه بدولة اسرائيل. بل انه قد يكون النبي اليهودي المعاصر الدي حقق لهذه الدولة ما لم يحققه بن غوريون ودايان : اخراج مصر من دائرة المواجهة مع الدولة العبرية ، وترسيخ مبدأ الخطوة خطوة ، وترسيخ الحل الانفرادي .
ثلاث ضربات فككت الجبهة العربية افقيا وعاموديا ، وجعلت المواجهة بين اسرائيل وكل واحدة من فتاتها امرا تترجح فيه بلا حدود كفة الجانب الاسرائيلي . سواء كان الميزان عسكريا ام سياسيا ام حتى على طاولة المفاوضات . فهل كان يمكن ان نتخيل اوسلو ووادي عربة لولا كامب ديفيد ؟ وهل كان يمكن ان نتخيل زحف التطبيع على جميع الساحات العربية لولا ذلك ايضا ؟

لم يكن هنري كيسنجر وهو يحقق كل ذلك الا منطلقا من استراتيجية دقيقة محددة البنود واضحتها. ولم يكن ليكشف ، بالطبع عن القليل الضروري من تلك البنود. ففي كل مرحلة من اللعبة يخرج الحاوي شيئا صغيرا من صندوقه ، ويظل المخفي اعظم . وكلما اخرج عنصرا مفاجئا وقذفه في وجوهنا ، ظننا انه وليد الساعة ، او قلنا : واين كان يخفي ذلك؟ غير ان المفاجىء لنا هو المبيت المخطط له لديه . لذا لم يخرج علينا صديق العرب ، في مقاله الاخير في الواشنطن بوست بالدعوة الى تهجير فلسطينيي اراضي الثامنة والاربعين ، بما لم يكن يضمره وهو يصفق لسهير زكي ، وينفخ سيجاره في وجه انور السادات ، قبل ان يفرك يديه طائرا الى مقابلة الزعماء العرب واحدا واحدا . لم يطرح ماطرحه بشأن حق العودة وحدود السابعة والستين ، مشترطا على الرباعية حسم هذين الامرين قبل الدخول في اية مفاوضات جديدة ، الا لانه يعرف ان جولة جديدة من المفاوضات سيتم اطلاقها بعد ان تستقر الوزارة الفلسطينية الجديدة . ولانه يريد استباق ذلك بما هو مطلوب يهوديا وصهيونيا واسرائيليا من الرباعية ، ومن العرب الذين ينعتهم بانهم ’’متصلدوالتفكير’’ .

الرجل الذي ابتكر الرحلات الاميركية المكوكية في العالم العربي حتى توصل الى فك حزمة العصي ، وكسرها واحدة واحدة ، يقترح الان ان يتم تبادل فلسطينيي ’’ دولة اسرائيل ’’ بمستوطني الضفة الغربية ، وذلك في اطار الحل النهائي . وبدا أن وزير الخارجية الاميركي الاسبق يريد ان يستكمل عمل رئيس وزراء اسرائيل السابق الراقد في الغيبوبة ، في بناء جدار فصل عنصري اخر . شارون بنى جدارا اسمنتيا وكيسنجر يكمله بالجدار البشري ، ليكملا معا جدار الفولاذ الذي اسس له ، نظريا وعمليا، جابوتنسكي . واستكمالا لفكرة العزل نفسها احتج كيسنجر بحدة على موضوع عودة اللاجئين ، معتبرا انه امر غير واقعي لان العرب يعتقدون بحق عودة هؤلاء ’’الى اراضي دولة اسرائيل الحالية’’. وهنا لابد من التوقف عند صفة : الحالية، حيث ان الضمير المستتر فيها هو الايمان بدولة اسرائيل الكبرى، التوراتية ، الصهيونية ، والتي لا يقبل الوزير المخطط ان يتركها تذهب الى النسيان ليصبح من المقبول والمألوف ان اسرائيل هي فقط تلك التي تقع على الارض المحتلة فقط .

اصرار على يهودية الدولة ، عبر عملية تطهير عرقي مبرمجة ووقحة ، واصرار على المدى الصهيوني العنصري ، وبالتالي على دورها التوسعي ، لا يترجمان شيئا الا الالتزام الكلي بمبدأين قامت عليهما الصهيونية : الارض الموعودة للشعب المختار ، وعدم جواز اختلاط اليهود بالغوييم . عنصرية صارخة ، تحمل كل شروط تحديد العنصرية في القانون الدولي . ومن فم رجل طالما اراد الحكام العرب ان يسوقوه على شعوبهم ، ليبرروا انقيادهم لمخططاته . فكم اخر مثله الان ؟ والاهم هو السؤال الاخر : ها هو الرجل يكشف عما لديه لهذه المرحلة . فما هو الرد ؟ وماذا لدينا بالمقابل ؟