الشرق الأوسط

اتهامات وتساؤلات وتحقيقات وشيكة بسلوك برلين قبيل غزو العراق

هل كذبت الحكومة الألمانية؟ هل كان لديها موقف مزدوج؟ هل خانت الثقة الاخلاقية بتعاونها مع الولايات المتحدة في حرب العراق، حسبما كشف النقاب عنه في الآونة الأخيرة من معلومات اعترفت الحكومة الألمانية ببعضها ونفت البعض الآخر؟
هذه الاسئلة الساخنة تدور الآن في الشارع الألماني، حيث تسود اجواء فضحية سياسية بشأن تقارير ظهرت في وسائل الإعلام الألمانية في يناير (كانون الثاني) الماضي، مفادها ان عملاء في الاستخبارات الألمانية كانوا يقدمون معلومات استخباراتية على نحو منتظم، ساعدت الولايات المتحدة في حربها في العراق على الرغم من المعارضة القوية من جانب حكومة المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر. وقد اعترف ارنست اورلاو رئيس المخابرات الألمانية (بي.أن.دي)، بوجود ضابط اتصال ألماني كان يتمركز في غرفة العمليات العسكرية الاميركية في قطر، إبان الحرب الأخيرة على العراق. إلا أنه نفى تزويد المخابرات الألمانية لنظيرتها الأميركية بالتقارير الميدانية، حول حركة القيادة العراقية والقطاعات العسكرية العراقية. وأضاف أن مهمة الضابط في الدوحة كانت تلقي المعلومات من الأميركان وليس العكس. كما أقر مصدر في المخابرات الألمانية، في حديث مع «رويتر ـ ألمانيا» أمس، بتلقي ضابط الاتصال المذكور، أسوة بضابطي مخابرات ألمانيين آخرين بقيا ببغداد وأرسلا التقارير إلى برلين حول مجريات الحرب، وسام استحقاق من الولايات المتحدة نظير«دعمه للعمليات العسكرية في العراق». إلا أن اورلاو وصف هذا الوسام بالاعتيادي حسب المعايير العسكرية، مؤكدا أن نشاط الضابط تم بموافقة الحكومة الألمانية.

وقلل المتحدث من شأن المعلومات التي نقلت إلى الجانب الأميركي، مشيرا إلى أنها كانت «ذات أهمية عسكرية ضئيلة». وعموما نقل الضابط 25 تقريرا إلى المخابرات العسكرية الأميركية، كما أجاب على 18 استفسارا وجهتها القيادة الاميركية إليه، قبل اندلاع الحرب في مارس (آذار) 2003.

وكانت صحيفة «زود دويتشه»، قد كشفت قبل أسبوعين عن تمركز ضابط المخابرات الألماني، الذي يحمل الاسم الحركي «غاردست»، في مقر القيادة الاميركية في الدوحة. كما تحدثت الصحيفة عن نيل رجال المخابرات الألمانية الثلاثة، أوسمة استحقاق من الجيش الأميركي، نظير خدماتهم خلال الحرب على العراق.

ومن المتوقع أن تعقد لجنة برلمانية جلسة سرية الاسبوع المقبل، للتحقيق في تقرير نشرته «نيويورك تايمز» يوم الاثنين الماضي، جاء فيه ان عملاء للاستخبارات الألمانية في بغداد، زودوا الجيش الأميركي بمعلومات حول خطط صدام حسين للدفاع عن العاصمة بغداد، قبل شهر من بداية الغزو الاميركي. ومن المقرر أن تتخذ أحزاب المعارضة الألمانية الرئيسية الثلاثة الاسبوع المقبل، قرارا حول إجراء تحقيق برلماني شامل في خداع وغش الحكومة الألمانية السابقة، ونشاط عملاء استخباراتها في العراق، خلال الفترة التي سبقت الغزو في مارس 2003. وتتساءل هذه الاحزاب اين هي الفضيحة في احتمال تقديم ألمانيا مساعدة للولايات المتحدة في شكل معلومات استخباراتية؟ هناك عدة اجابات محتملة لهذا السؤال، لعل أولها هو رفض الرأي العام الألماني منطلقا اخلاقيا للحرب، بالإضافة الى وعد الحكومة الألمانية السابقة بأنها لن تشارك في الحرب، ما يفسر للكثيرين في الشارع الألماني، ان احزاب المعارضة ليست وحدها التي تتعامل مع المعلومات التي كشف النقاب عنها كونها فضيحة. وكان اعضاء تيار يمين الوسط، الاتحاد الديمقراطي المسيحي المؤيد للولايات المتحدة، قد قالوا مرارا ان تقديم مساعدات عسكرية مهمة للولايات المتحدة ـ مثل كشف خطة صدام حسين للدفاع عن بغداد قبل الغزو ـ تعتبر خرقا للثقة العامة. بمعنى آخر، لم تقل الحكومة الألمانية ان مساعدة الولايات المتحدة في كسب الحرب كان شيئا ايجابيا، وإنما تتركز حجتها في ان تعاونها الاستخباراتي كان محدودا للغاية، ولم يكن له فائدة في العمليات القتالية للجيش الاميركي. وأشار رينهولد بيتيكوفر، رئيس حزب الخضر، الى ان تقديم المعلومات الاستخباراتية مثار الجدل، لم يكن ملائما منذ البداية. واضاف إن تأييد احزاب رئيسية، مثل الحزب الديمقراطية المسيحي، لتوفير هذه المعلومات للولايات المتحدة عند بداية الحرب، يعتبر انتحارا سياسيا. واستطرد قائلا انه من غير المناسب ايضا التجرؤ والتباهي بإعلان المساهمة في المجهود الحربي الاميركي في العراق.

لقد ضاعت وسط هذا الجدل حقيقة ان الحكومة الألمانية ـ التي كان يقودها في بداية الحرب المستشار لسابق جيرهارد شرودر، الذي قامت حملة إعادة انتخابه على اساس معارضة حكومته للحرب ـ قدمت للولايات المتحدة قدرا كبيرا من الدعم دون ان تواجه أية اتهامات بالغش والخداع. كان لألمانيا دبابات في الكويت، وكانت توفر حراسة للمنشآت العسكرية داخل الأراضي الألمانية، كي تسمح للجنود الاميركيين بالذهاب الى العراق، فضلا عن ان ألمانيا فتحت مجالها الجوي لطائرات النقل العسكرية الاميركية، كما ان ألمانيا تدرب حاليا قوات تابعة للشرطة العراقية خارج العراق. ترى، ما اهمية ان تكون ألمانيا قد قدمت معلومات استخباراتية للجيش الاميركي حصل عليها عملاء للاستخبارات الألمانية في بغداد، وهي في واقع الأمر قدمت كل المساعدات أعلاه؟ قال جوزيف جوف في مقال كتبه في مجلة «دي تسايت» الاسبوعية، انه باستثناء بريطانيا تعتبر ألمانيا والولايات المتحدة اهم حليفين، ولم يكن لدى الرأي العام اعتراض على ذلك. وأضاف ان وسائل الإعلام الألمانية تشكل عاملا رئيسيا في الاعتراض على ما كشف النقاب حول المعلومات الاستخباراتية التي قدمت للجيش الاميركي قبل الحرب بشأن خطط صدام حسين للدفاع عن بغداد، وأوضح ان مسلك وسائل الإعلام الألمانية بصورة عامة لا يختلف عن السائد في الدول الديمقراطية، حيث ينصب التركيز بصورة رئيسية على المواقف الاخلاقية لقادة الحكومات، وبصورة اقل على المسائل ذات الصلة بالأهداف الاستراتيجية. وذكر جوف ان شرودر استخدم بعناية لهجة معادية بمقدار محدد للولايات المتحدة، خلال حملة إعادة انتخابه مستشارا لألمانيا ومن الطبيعي، كما يقول، ان تثير الصحافة دراما اخلاقية لزعيم يتحدث بلهجتين مختلفتين. واوضح ان ثمة تفهما داخل الحكومة الألمانية، لأنه كان يجب تفهم حقيقة أن لا مصلحة في تدمير العلاقات تماما. هناك عدد محدود يرى انه ربما لم يبد الأمر نوعا من النفاق، حتى في حال ثبوت صحة اكثر التقارير إثارة، مثل مساعدة الاستخبارات الألمانية في تحديد اهداف القصف للقوات الاميركية. ومن المؤكد ان ألمانيا عارضت حرب العراق بقوة، ولم يكن موقفها ذلك لأسباب اخلاقية فقط، وإنما لأسباب عملية ايضا اكثرها اهمية ان الحرب ستزيد نشاط الإرهاب في المنطقة او تهدد باندلاع حرب اهلية في العراق. ولكن في سياق ممارسة السياسة على نحو يراعي المصالح الوطنية التي أشار اليها جوف، كان في مصلحة ألمانيا منذ انطلاق الحرب نجاح الهدف الذي كانت ترمي الولايات المتحدة لتحقيقه، لأنه اذا فشلت في ذلك ستنتشر الفوضى على نطاق واسع، وهذا نفس ما قاله يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا خلال تلك الفترة.

من جانبه قال روبرت فون ريمشا، المتحدث باسم الحزب الديمقراطي الحر (يمين الوسط)، ان نظرة الرأي العام الألماني الى السياسة الخارجية تفتقر الى الواقعية على نحو لا يسمح بتمييز الخطوط الدقيقة، التي تفصل بين بعض القضايا. وتبدو صورة «مستشار السلام»، التي كان يظهر شرودر بها، قد اهتزت تماما بعد «فضيحة» تورط المخابرات الألمانية في الحرب على العراق. كما تزايدت الانتقادات الموجه إلى المخابرات الألمانية التي تستعد للاحتفال يوم 1/4/2006 للاحتفال ياليوبيل الذهبي لتأسيسها. إذ سبق للمخابرات أن اعترفت بمراقبتها لعمل الصحافيين والتنصت على مكالماتهم وعلاقاتهم. كما ورد اسم «بي.ان.دي» في قضية اختطاف عالمة الآثار الألمانية زوزانة اوستهوف في العراق، حيث وجهت لها الصحافة تهمة التسلل إلى العراق باستخدام المواطنين الألمان العاملين في المنظمات الإنسانية. ووجه العديد من النواب البرلمانيين إلى المخابرات الألمانية تهمة المعرفة المسبقة بالسجون الاميركية السرية في أوربا، والتغاضي عن أعمال خطف المواطنين الأوربيين المتهمين بالإرهاب، ونقلهم بالطائرات إلى سجون سرية في أفغانستان ورومانيا وبولندا.