يعرف اللبنانيون أن <<المؤتمر الوطني للحوار>> قد أنجز، بمجرد انعقاده، ما يستطيع إنجازه بالقدرات الذاتية: أي جمع قيادات الاتجاهات السياسية الأساسية في البلاد من حول طاولة مستديرة ليناقشوا، مواجهة وبالصراحة المطلقة، خلافاتهم واختلافاتهم متعددة المصادر والأسباب.

كانت الأزمة قد بلغت نقطة الانفجار: بداية كان التمايز في المواقف، الذي سرعان ما تدرّج إلى التعارض فالانشقاق فالاستنجاد بالشارع بكل ما يحمله مثل هذا التصرف من خطر التصادم في بلد دقيق التوازنات وضيق الرزق.

والشارع في لبنان شوارع، والشوارع طوائف ومذاهب وعواطف يسهل تهييجها ويصعب من بعد ضبطها، خصوصاً في ظل المناخ المسموم الذي ينشره لجوء الاحتلال الأميركي في العراق إلى محاولة إدامة وجوده وإشغال العراقيين عنه بالفتنة، وكذلك في ظل توغل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في قتل المقدسات والسلطة المتهالكة والبشر والأرض والشجر والحق بالوطن.

لقد أحدث اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري زلزالاً أصابت تداعياته الخطيرة مختلف جوانب الحياة: بداية العلاقات مع سوريا، التي كانت الدولة الراعية للدولة في لبنان، بمؤسساتها جميعاً، والتي كان بديهياً أن تتوجه إليها أصابع الاتهام إن لم يكن بالمسؤولية المطلقة عن الجريمة فأقله بالتقصير الفاضح في كشفها قبل أن تقع، أو في الإمساك بالجناة فور وقوعها لمحاسبتهم وكشف المخطط الدموي المدمر، والذي ستصيب ناره سوريا بقدر ما تصيب لبنان وأكثر.

كثيرة هي الأسباب التي جعلت أصابع الاتهام تتوجه مباشرة إلى السلطة في لبنان، ممثلة برأسها وأجهزته الأمنية، كمدخل للتأكيد على مسؤولية النظام السوري، خصوصاً وقد تمّ التعامل مع الحدث الزلزال بخفة ثم بتهيّب ثم برد فعل دفاعي بائس... وفي كل الحالات فقد افتقد الناس عموماً، وبالذات منهم المؤمنون بترسيخ علاقات الأخوة مع سوريا إلى حد التكامل، الرواية الرسمية السورية عن هذه الجريمة التي استهدفت الرجل الذي جاء إلى الحكم في بيروت من باب دمشق، وظل صادقاً في علاقته بها حتى يومه الأخير.

وكان بديهياً أن تستغل <<الدول>> هذا الارتجاج في العلاقات اللبنانية السورية، وأن تستثمر جريمة الاغتيال لمصالحها، ولا سيما وقد ربط الاغتيال بتداعيات تمديد الولاية لرئيس الجمهورية، ومنع التمديد كان الذريعة لاستصدار قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1559.

أسمح لنفسي هنا أن أستذكر بعض وقائع اللقاء الذي صار وداعاً مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ليل الأحد في 13 شباط 2005، أي عشية جريمة اغتياله:

على مدى ساعتين إلا قليلاً، عرض رفيق الحريري آراءه ومواقفه من مجمل المسائل المطروحة آنذاك، واستعاد بعض الوقائع المتصلة بالقرار 1559 وبالتمديد، وبالعلاقة مع القيادة السورية، فضلاً عن إظهار عواطفه الشخصية تجاه بعض <<القياديين>> في لبنان، وبينهم <<مَن لن أسمح له بشرف الدخول إلى منزلي ما حييت>>.

قال رفيق الحريري، يومها: أنت تعرف وليد المعلم فاسأله.. (وكان قد عيّن نائباً لوزير الخارجية السورية وكلف بالملف اللبناني، وجاء فجال على مختلف القيادات السياسية في لبنان)..

<<لقد سألته حين زارني هنا في قريطم: منذ متى كنت تعرف يا أبا طارق أن ثمة قراراً دولياً يستهدف الوجود السوري في لبنان (1559).. ورد وليد المعلم: منذ حزيران 2004. قلت له: وأنا عرفت أيضاً في ذلك الوقت بأن ثمة قراراً يعد، وأنه سيكون خطيراً بنصه ونتائجه. ولكن ماذا أفعل إذا كنت قد طلبت موعداً مع الرئيس بشار الأسد لأبلغه بما عندي فلم يأتني الموعد... لينتهي الأمر باتهامي في الضلوع في مؤامرة إعداد هذا القرار الذي جاهرت باعتراضي عليه علناً، وقد امتنعت ومنعت كتلتي النيابية من الذهاب إلى لقاء البريستول (الأول)، كما يذكر الجميع، بل إنني <<تبرأت>> من صديق لي شارك فيه خوفاً من أن يقال إنني من أوفده. ولقد اتخذت هذا الموقف برغم اعتراضي على التمديد، الذي ذهبت للتصويت عليه ب<<نعم>> حتى لا أكسر كلمة سوريا. وأشهد أن حليفي وليد جنبلاط قد اندفع الى أبعد مما أعلنت، فخطب في أكثر من مناسبة، وقال في العديد من الأحاديث الصحافية بأنه يعارض هذا القرار، بل يعتبره مقدمة للتدخل الدولي، أو حتى لفرض نوع من الوصاية الدولية على لبنان في مواجهة سوريا وكمقدمة للهجوم عليها..>>.

وختم رفيق الحريري بالقول: <<أحلف بالله العظيم، وبأولادي، وبرحمة ابني حسام، أنني أحب الرئيس بشار الأسد وأقدره وأتمنى له التوفيق في ما فيه الخير لسوريا وفيه الخير للبنان، ولا يمكن أن نستغني عن سوريا فكيف بأن نجافيها؟>>.

هل هذا من الماضي؟

وعلى فداحة جريمة الاغتيال، التي يتخذ التحقيق الدولي فيها سياقه الطبيعي، فمن الصعب قبول المنطق القائل إن <<رفض

الوصاية السورية>> يستدعي أن نقبل بوصاية دولية (أميركية أساساً وإن شفعت بالتأييد الفرنسي)، وأن ينتقل لبنان من موقع الشقيق إلى موقع المطالب الجيوش الأميركية باحتلال سوريا.

كذلك ففداحة الجريمة لا تبرر بأي حال أن ننظر إلى القرار 1559 كنص مقدس، وأن نهب لمعاقبة المقاومة التي حررت بدماء مجاهديها الأرض والإرادة في لبنان من الاحتلال الإسرائيلي فندمغها بتوصيف الميليشيا (وهي كلمة كريهة في القاموس اللبناني) ثم نطالب بتجريدها من السلاح، كأنها قوة وفدت علينا من الخارج وآن لها ان تعود من حيث جاءت، أو كأنها مجموعات من <<المرتزقة>> أدت لنا خدمة مأجورة وآن أوان انصرافها، لينعم الطامعون أو الطامحون إلى حكم لبنان في ظل الوصاية الدولية التي ستكافئهم على صدق التزامهم بالقرار الدولي بتنصيبهم رؤساء ووزراء ونواباً مدى الحياة..

ثم ان الجميع يعرف بأن سوريا، التي ارتكب نظامها اخطاء فادحة في لبنان، قد وفرت لهذه المقاومة المجاهدة الحماية والدعم حتى حققت الانتصار الباهر. وهل ننسى ان <<تفاهم نيسان>> الذي كان انجازاً تاريخياً، وقد شارك في السعي إلى تحقيقه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إنما تم اقراره في دمشق وفي مكتب الرئيس الراحل حافظ الأسد بالذات؟!

ان العلاقات اللبنانية السورية أكثر حيوية وتعقيداً وأهمية وخطورة من ان تحلها تظاهرات الغضب وهتافات الثأر والتصريحات العابقة برائحة العنصرية والتكابر.

كذلك فهي أخطر من أن تهمل أو تترك للزمن.

وهي بالتأكيد أجلّ من ان تستبدل بتوثيق العلاقات مع الرعاة الجدد (الأميركي والفرنسي ومن معهما)، وكفى الله المؤمنين شر القتال.

ان كل المسائل المطروحة على طاولة الحوار تبدأ بالعلاقات مع سوريا وتنتهي بها.

وإذا كان التحقيق الدولي في جريمة الاغتيال يمضي في مساره نحو المحكمة ذات الطبيعة الدولية التي لم يعترض عليها أحد، فمن البديهي ان يعزل عن ضرورة إعادة صياغة العلاقات اللبنانية السورية على قواعد جديدة، تتخفف من <<الوصاية>> و<<الرعاية>>، لتتخذ سياقها الطبيعي كما بين أي دولتين شقيقتين وجارتين.

لقد تمت معاقبة النظام السوري على اخطائه في لبنان، ووجوه قصوره أو تقصيره وبعضها كان فاضحاً، مثل المسؤولية المباشرة أو المعنوية عن عدم منع ثم عن عدم معرفة وتحديد الجناة الذين افقدوا لبنان (وسوريا) شخصية عربية ذات وزن دولي محترم مثل رفيق الحريري. لقد طرد النظام السوري من لبنان شر طردة... ولكن ثمة من يريد ان يطارده حتى دمشق وفيها، وهذا ليس من حقنا فضلاً عن انه ليس في قدرتنا، ثم انه لن يؤدي إلا إلى حرب لا يمكن ان يربحها لبنان.

ثم ان علينا ان نلاحظ التحول المهم في الموقف العربي: لقد تعاطف معنا الاشقاء العرب إلى الحد الأقصى. لكنهم الآن بدأوا يتذمرون، بل ان الاقرب إلينا بدأ يظهر غضبه من التصرفات المتهورة والتصريحات التي تتذرع بالثأرية كي تطالب باحتلال سوريا.

... كذلك فإن الأقرب إلينا لا يمكن ان يقبل من بعض قادة الأغلبية اسقاط صفة <<العدو>> عن إسرائيل، فكيف بتحويلها إلى سوريا. ان تلك اخطر من جريمة. انه خطأ سياسي قاتل.

واستطراداً فإن العرب بمجموعهم لا ينسون، وهم يقدرون للمقاومة المجاهدة انجازها في تحرير معظم المحتل من الأرض اللبنانية، ان سوريا قد دعمت وحمت هذه المقاومة.

وأخيراً فإن العرب جميعاً يريدون وهم قد سعوا فعلاً وبادروا إلى بذل الجهد من أجل تصحيح العلاقة بين بيروت ودمشق، ولما جوبهوا برفض لبناني فانهم قد تراجعوا بعدما سجلوا على المعنيين في لبنان هذا الخطأ السياسي الفاضح.

ان تصحيح العلاقات اللبنانية السورية مدخل اجباري إلى المعالجة الجذرية لمعظم الاشكالات والعقد السياسية التي تسببت في انقسام اللبنانيين إلى حد قارب المواجهة في الشارع.

ان تصحيح هذه العلاقات يسهل أمر التوافق في موضوع رئيس الجمهورية، مع التنويه بأنه لم يحدث في تاريخ لبنان ان انتخب رئيس يجاهر بالعداء لسوريا، حتى عندما كان الاجتياح الإسرائيلي في صيف العام 1982 قد بلغ قلب بيروت، التي <<احترقت ولم ترفع الاعلام البيضاء>>..

ثم ان تصحيح هذه العلاقات أولى ألف مرة من التشدّق بضرورة الالتزام بمضمون القرار 1559، كأنما مجلس الأمن أدرى منا بظروف بلادنا ومن هي المقاومة ومن هي الميليشيا، أو كأن القرارات السابقة لهذا المجلس قد انصفت الفلسطينيين فحلت مسألة لجوئهم إلى لبنان (وغيره) واغنتهم عن السلاح... بالعودة!

وبالتالي فإن تصحيح هذه العلاقات يسهل أمر علاج مشكلة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، لأنه من الثمار المرة <<للحرب اللبنانية>> على سوريا... خصوصاً ان التصحيح يطوي صفحة المنطق العنصري الذي تطرح به الأمور، حالياً.

ومع التقدير للنوايا الحسنة التي أظهرها معظم المؤتمرين، فان أمر هذه العلاقات يحتاج إلى مبادرة عربية صادقة وفعالة، يطلبها الجميع من الجميع، لا سيما الدول القادرة التي أظهرت استعدادها فتم صدها بطريقة فظة ومن خارج السياسة، حتى لا نتهم الرافضين بما هو أخطر، وبالتحديد لمن نسي أو تناسى: المملكة العربية السعودية ومصر.. والسودان الذي سيكون رئيس القمة المقررة في 27 من الشهر الجاري.

ونجاح المؤتمر هو المدخل الشرعي للمبادرة العربية التي يمكنها ان تنجز مهمتها الضرورية فتفتح باب دمشق، وتفتح معه أبواب الحلول للمسائل المختلف عليها، الآن، والتي لا تحلها المعانقات والمصافحات والمصارحات وان اسهمت في التمهيد للخطوة الحاسمة في اتجاه استعادة السلام الوطني عبر توطيد الوحدة الوطنية.