في عالم يتجه حثيثا نحو الطلاق البائن مع الانقلابات العسكرية كوسيلة للتغيير السياسي، تظل الفلبين وحدها حالة شاذة. وما محاولة الانقلاب التي أحبطتها حكومة الرئيسة غلوريا ماكاباغال أرويو في أواخر فبراير المنصرم إلا رقم جديد يضاف إلى قائمة طويلة من محاولات الانقلاب المتتالية منذ الثورة الشعبية التي أطاحت بديكتاتورية الرئيس الأسبق فرديناند ماركوس في مثل هذه الأيام من عام 1986 . فالرئيسة كورازون أكينو التي خلفت ماركوس مثلا تعرضت خلال سنوات حكمها الذي امتد إلى عام 1992 لأكثر من خمس محاولات انقلابية. و كذا كان الحال مع أرويو التي نجا نظامها من محاولة تمرد عسكري في يوليو 2003.

وفي جميع الأحوال كان أبطال الانقلاب هم صغار ضباط المؤسسة العسكرية، وكان الانطلاق من حي المال والأعمال في ضاحية ماكاتي، وكان المبرر هو استشراء الفساد في جسد السلطة الحاكمة ورموزها، وكان الداعمون من الخارج هم أطياف المعارضة من الساسة ورجال الأعمال ممن فقدوا امتيازاتهم لسبب أو لآخر. وفي جميع الأحوال أيضا كانت الشائعات تسبق محاولات الانقلاب وتحاول إلغاء عنصر المفاجأة مع الإشارة دوما إلى اسم غريغوريو هوناسان كضالع في المؤامرة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وقد اشتهر الأخير بصناعة الانقلابات منذ محاولته الأولى للإطاحة بأكينو في أواخر الثمانينيات، قبل أن يختفي عن الأنظار هاربا لبعض الوقت ثم يعود خالعا بزته العسكرية ومشاركا في الحياة السياسية.

ولئن انطبق هذا كله على محاولة الشهر الماضي الانقلابية، فإن الأخيرة تميزت ببعض السمات الجديدة. فلجهة التوقيت، تم الاستعداد للانقلاب كي يتزامن مع احتفالات البلاد بالذكرى العشرين للثورة ضد نظام آل ماركوس الذي اشتهر كثاني أكثر أنظمة العالم فسادا بعد نظام آل سوهارتو في اندونيسيا. وكان المأمول هو استغلال ما يصاحب تلك الاحتفالات عادة من حشود شعبية في الشارع للإطاحة بنظام أرويو على غرار ما حدث عام 1986 أولا، ثم ما حدث في ثورة الشعب الثانية ضد نظام الرئيس السابق جوزيف استرادا عام 2001.
ولجهة العناصر المتورطة، تميزت محاولة الانقلاب الأخيرة بأنها حظيت بمباركة أو دعم عناصر من اليمين واليسار معا، قيل إنها شملت ضباطا مرموقين من ذوي السمعة العسكرية الممتازة، من أمثال دانيلو ليم قائد قوات النخبة وأرييل كيروبين قائد سلاح البحرية، ورموز بارزة في الأحزاب السياسية المعارضة، ووزراء سابقين، وجنرالات متقاعدين، وأنصار الرئيس المخلوع استرادا، إضافة إلى المتمردين الشيوعيين. بل قيل أيضا إن أكينو وخلفها المباشر الجنرال فيدل راموس كانا على علم بالعملية أو على الأقل لم يكونا ليمانعا. فالأولى، والتي لا تزال تحظى باحترام لا يجاريها فيه أحد من رموز الساحة، كانت قد طالبت أرويو مرارا بضرورة التضحية بالمنصب الرئاسي من أجل وحدة الشعب والمحافظة على السلم الأهلي، بل إنها تحدت مؤخرا قرار أرويو بفرض حالة الطوارىء وقررت قيادة المسيرات الشعبية قائلة إن أرويو بقرارها هذا ارتكبت خطأ آخر في حق الديمقراطية الفلبينية. والثاني، والذي تميز عهده ما بين 1992 و1998 بالاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي النسبي، نقل عنه استياؤه من أسلوب أرويو في إدارة البلاد ومطالبته بإحداث تغيير جذري في الدستور يستبدل فيه النظام الرئاسي الحالي بالنظام البرلماني كحل لحالة اللااستقرار.

أما لجهة مبررات المحاولة الانقلابية الأخيرة، فقد قيل إنها تعبير عن الاستياء من حزمة من الأمور على رأسها فقدان نظام أرويو للشرعية بعدما ثبت تدخلها في نتائج انتخابات 2004 الرئاسية، وسكوتها على حالات فساد أبطالها من أقرب المقربين للرئيسة مثل زوجها وابنها، وتعاونها مع رموز سياسية واقتصادية مشبوهة من زمن ماركوس. كما قيل إن تلك المحاولة تعكس شكوى صغار ضباط المؤسسة العسكرية من تهميشهم وتردي أوضاعهم ودفعهم إلى ساحات القتال بينما يجلس فيه قادتهم في العاصمة للتنافس على الامتيازات.
والحقيقة أن الآمال الكبيرة التي بنيت على عودة الديمقراطية قبل 20 عاما، سرعان ما تبخرت في ظل رئاسة أكينو الضعيفة والفاقدة للخبرة السياسية. وهي لئن عادت مع النجاحات النسبية التي حققها راموس، فإنها انتكست مجددا مع خروجه من السلطة وحلول ممثل السينما السابق استرادا في قصر مالاكانيان الرئاسي، رغم كل ما أحيط بالأخير من دعاية كوجه جديد من خارج عالم الساسة التقليديين ونصير للفقراء والمظلومين. وانتعشت الآمال مرة أخرى بمجيء أرويو، كونها سليلة عائلة سياسية عريقة وابنة أحد أفضل رؤساء الفلبين السابقين (دياسدادو ماكاباغال) وخريجة إحدى أفضل الجامعات الأميركية، لكن حال هذه الأخيرة لم يكن أفضل من أحوال أسلافها. إذ سرعان ما تكالبت ضدها كل العوامل السلبية المتجذرة في المجتمع الفلبيني، فيما كانت هي تستسلم لضرباتها وتجاريها.

تصف أرويو نفسها بأنها أفضل من يدير البلاد، وأنها مصممة على تحدي الواقع السياسي والاقتصادي المر والانتقال بالفلبين إلى مصاف دول الجوار، مستنكرة على الجيش التدخل في السياسة، ومتحدثة عن شرعية نظامها. أما خصومها فيذكرونها بأنه لولا تدخل الجيش في عملية الإطاحة باسترادا لما وصلت هي إلى السلطة، وبأن شرعيتها انتقصت بتدخلها في نتائج الانتخابات الماضية وبانخراط أقربائها في الفساد والرشوة واستغلال النفوذ، ناهيك عن أن إنجازاتها تكاد لا تذكر، بدليل أن اقتصاد البلاد لا يزال يعتمد كثيرا على تحويلات العمالة الفلبينية المهاجرة (بلغت في العام الماضي 1.35 مليار دولار أو ما يعادل ربع حصيلة الصادرات و12 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي).

والحال أن هذه البلاد التي تعرف برجل آسيا المريض، كناية عن تخلفها الاقتصادي عن جاراتها الصاعدات في جنوب شرق آسيا، لا تزال عاجزة عن تلمس الطريق المؤدي إلى الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي والسلم الاجتماعي رغم كل ما يتميز به شعبها من ذكاء وكياسة وملكات إبداعية. لكن الأخطر من هذا هو أن الروح الشعبية العارمة التي انتصرت للديمقراطية مرتين بدأت تتآكل. فنسبة لا بأس بها من الفلبينيين صارت تجاهر بأن الديمقراطية ليست علاجا للاستقرار والرخاء في بلد كالفلبين، بعدما ثبت أن ديمقراطية العقدين الماضيين لم تؤد إلا إلى ازدياد الفقر ومعدلات البطالة وتدهور الاقتصاد وتنامي الفساد وانفلات الأمن ودخول الساسة في مماحكات وحروب عبثية لا تنتهي.

غير أن علاج فشل الديمقراطية في الفلبين لن يكون بالانقلاب على المؤسسات الدستورية واستبدالها بنظام عسكري صارم مثلما قيل عن أهداف المتآمرين الجدد. فمثل هذا العلاج لن يؤد إلا إلى المزيد من العزلة والتخلف، لسبب بسيط هو أنه ما من قوة كبرى أو إقليمية في هذا العصر مستعدة للاعتراف بسلطة تغتصب الشرعية بالقوة أو راغبة في التعامل معها.