لم تكن كوندوليزارايس التي زارت المنطقة أخيراً هي نفسها التي زارتها قبل ذلك. اختفى الصلف والعنجهية من لغة وزيرة الخارجية الأميركية وأصبحت تتحدث بواقعية أكثر حتى وهي تتناول موضوعات يبدو الخلاف فيها واضحاً بين الموقف الأميركي ومواقف العديد من الدول العربية التي زارتها.

إنه الفشل العميق والذي لم يعد ممكنا إنكاره لمجمل السياسات الأميركية في المنطقة، فلم يعد أحد في أميركا يصدق الرئيس الأميركي وهو يكرر حديثه المعتاد والممل عن «الانتصار» الأميركي في العراق..

بل ولا أظن أن بوش نفسه يصدق شيئاً مما يقوله بعد أن تحولت مغامرته هناك إلى كارثة. وفي فلسطين تدرك وزيرة الخارجية الأميركية كيف أدى الانحياز الأميركي لإسرائيل إلى رهن السياسة الأميركية لأسوأ السياسات العنصرية الإسرائيلية، لتتحول الإدارة الأميركية ـ لدى الرأي العام العربي ـ إلى شريك حقيقي في كل جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين.

ولتكون النهاية هي إجهاض كل محاولات التسوية السياسية، ومع الانتخابات التشريعية صعدت «حماس» إلى السلطة لتبدأ فصلا فلسطينيا جديد ولتضع كلمة النهاية لمسيرة بدأت في أوسلو ولم تحقق شيئاً حقيقياً على مدى ما يقرب من خمسة عشر عاماً.

الهزيمة في العراق والخيبة في فلسطين، كانت هي الحصاد المر لسياسة أميركا في المنطقة، ولكنها ليست وحدها الآن. فهناك الأزمة مع سوريا وفي لبنان حيث تبدو السياسة الأميركية في النهاية عاجزة عن حسم الأمور لصالحها.

ثم هناك إيران ومشروعها النووي وتخبط واشنطن في التعامل معها في ظل أوضاع العراق التي أتاحت للنفوذ الإيراني أن يتمدد كما يريد في ظل قدرة إيران على إثارة المتاعب لأميركا وحلفائها في العراق الذي تحول إلى ساحة معارك مفروضة عليه بين قوى خارجية تريد تصفية حساباتها.

في ظل هذه الأوضاع جاءت رايس إلى المنطقة تحيط بها مشاعر ملتهبة لدى الرأي العام العربي ضد السياسة الأميركية في المنطقة، ومشاعر إحباط لدى البعض الذين راهنوا على الدور الأميركي في الإصلاح السياسي في المنطقة، وهو الدور الذي توهم هذا الـ «البعض» أنه سيحسم الأمور في ظل تأكيدات الرئيس الأميركي.

وأركان إدارته (خاصة منذ تجديد انتخابه لولاية رئاسية جديدة) على أن الهدف الأساسي للسياسة الأميركية في المنطقة هو إشاعة الديمقراطية ونشر الحرية، وأن ستين عاماً من مساندة الأنظمة العربية بدعوى الاستقرار انتهت إلى فقدان الاستقرار والديمقراطية معا.

الآن تأتي رايس إلى المنطقة فلا تثير قضية الديمقراطية والإصلاح في أي عاصمة زارتها إلا لتشيد بجهود الحكومات وتبارك مسيرة الإصلاح التي تراه في طريقها.

فالمأزق كبير، والفشل الذي انتهت إليه السياسة الأميركية في المنطقة أشاع مناخا من الإحباط لدى الجماهير، والانتخابات الحرة لن تأتي إلا بالرافضين لهذه السياسة، والتجربة في مصر وفلسطين ركزت الأضواء على الإسلاميين بوصفهم أكثر التيارات تنظيما .

وقدرة على تحقيق التقدم في الانتخابات في هذه المرحلة، السلوك الأميركي الآن يثبت لمن يريد أن حكاية «الديمقراطية» لم تكن إلا شعارا للتعمية عن الأهداف الحقيقية لهذه الاستراتيجية التي بدأت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي التي تؤمن أن السيطرة على الشرق الأوسط هو مفتاح بناء الإمبراطورية الأعظم. والاهم أنها مفتاح منع أي تحد لها أو منافسة من أوروبا أو الصين أو غيرهما.

كان غزو العراق هو البداية، ليتم استكمال الحلقات بسوريا ولبنان ودول الخليج، ولتكون السعودية هي الهدف بعد ذلك، أما مصر فهي «الجائزة الكبرى» كما وصفتها هذه الاستراتيجية ! الآن تتحالف كل أوجه الفشل لتوقف هذه الاستراتيجية.

فالغرق في المستنقع العراقي لم يعد ممكنا تجاهله بالحديث المستمر من الرئيس بوش عن «النصر» الذي تحقق في العراق! وصعود حماس في فلسطين يمثل تحديا جديدا، وإيران تربك كل الحسابات الأميركية، والضغوط على الحلفاء تحت دعوى الديمقراطية لن تؤدي إلا إلى المزيد من الإرباك.

وهكذا .. لم يعد ممكنا أن تستجيب واشنطن لدعوة مثل التي صدرت عن وليد جنبلاط لتكرار تجربة العراق في سوريا، ولم يعد ممكنا المضي في رهن السياسة الأميركية للمصالح الإسرائيلية حتى ولو كانت تدمر مصالح أميركا في المنطقة كما حدث منذ سيطرة اليمين الصهيوني على الإدارة الأميركية.

ولم يعد ممكنا تجاهل مخاطر دفع العالم إلى حرب صليبية جديدة بشر بها الرئيس الأميركي في «زلة اللسان» الشهيرة، ولم يعد ممكنا المضي في المخطط الأميركي للمنطقة.

وهناك 150 ألف جندي أمريكي رهائن للوضع في العراق، والأهم من ذلك كله.. لم يعد ممكنا خداع الرأي العام الأميركي بأن هذه الاستراتيجية تحقق المصلحة الأميركية (وليست الإسرائيلية) حتى ولو تم منع تصوير النعوش التي تحمل جثث الجنود القتلى في العراق، وحتى لو تجاوز العجز في الميزانية الأميركية كل الحدود.

وهكذا تجيء رايس إلى المنطقة، والملفان الرئيسيان أمامها هما صعود حماس إلى السلطة في فلسطين، والأزمة الإيرانية. وللمرة الأولى من سنوات يصبح الخلاف علنيا بين واشنطن والعواصم العربية المؤثرة. ففي قضية حماس كان الموقف العربي مع رفض الدعوة للحصار.

والتي وصلت إلى حد التشديد من جانب رايس نفسها قبل حضورها للمنطقة على إقناع الدول العربية والإسلامية عن تقديم أي مساعدات للسلطة الفلسطينية وبعد تولي حماس قيادتها، والدعوة مقابل ذلك إلى احترام الشرعية للعملية الديمقراطية التي جاءت بحماس إلى السلطة ومنحها الفرصة لصياغة سياستها الجديدة في المرحلة المقبلة.

وفى الملف الإيراني.. فهناك الحرص العربي على تجنيب المنطقة ويلات حرب جديدة ستدفع الدول العربية ثمناً فادحاً فيها، وهناك أيضا الحرص على وضع الملف النووي الإسرائيلي فوق المنضدة نفسها، واستغلال الفرصة لوضع المجتمع الدولي أمام التزاماته بشأن إبعاد المنطقة كلها عن خطر الانتشار النووي ورفض انفراد إسرائيل بامتلاك ترسانتها النووية.

المأزق الأميركي والحاجة لتعاون الأنظمة العربية وغياب الحديث الأميركي الجاد عن قضايا الإصلاح السياسي قد تعطي مشاعر بالراحة لدى الأطراف العربية، ولكنها لا ينبغي أن تخفي أسئلة مطروحة لابد من التعامل معها بكل جدية.

فى العراق، ومع السعي الأميركي للخروج من المأزق ومع أخطار التقسيم والحروب الأهلية.. كيف سيكون الدور العربي؟ وهل سيكون مجرد غطاء للخروج الأميركي أم سيكون عاملاً للاستقرار والوحدة.. وكيف؟

في فلسطين، وهل سيكون الموقف العربي مجرد طلب للوقت حتى تتلاءم حماس مع الواقع؟ أم أنها فرصة لتفعيل المبادرة العربية وفرضها على الجميع كورقة وحيدة للتعامل مع الموقف والعودة للشرعية والحصول على الحد الأدنى من الحقوق العربية ؟

في لبنان وسوريا.. هل يكون الجهد العربي هو المنقذ للوضع بعد أدراك أطراف لبنانية متعددة كانت رافضة للتدخل العربي اعتمادا على الضغوط الأميركية الأوروبية أنها كانت تسير وراء الرهان الخطأ؟

وبالنسبة لإيران، ومع أن شبح الصدام مع أميركا مازال بعيدا، لكن ماذا لو تم فى مرحلة قادمة وكيف نواجه آثاره الخطيرة علينا؟ وقبل ذلك كيف يمكن أن نتجنب مثل هذا الصدام المدمر؟

وفى الداخل.. قد تكون الضغوط الأميركية قد خفت على الأنظمة بالنسبة لقضية الإصلاح السياسي، ومع أيماننا الكامل بأننا وحدنا القادرون على إنجاز هذه المهمة.. فإن السؤال يبقى: هل تمضي الأنظمة العربية في طريق الإصلاح بجرأة، أم تركن إلى غياب الضغوط الخارجية فتعود إلى حالة الجمود التي كلفتنا الكثير؟