نصر شمالي

ما يتعرض له الفلسطينيون والعراقيون من عمليات تنكيل وقتل، في معسكرات الاعتقال وخارجها، هل هي جرائم حرب أم إبادة نوع؟

إن الوثائق والشهادات المدوّنة والمصوّرة تظهرها في فلسطين أقرب إلى عمليات إبادة الجنس منها إلى مجرّد جرائم الحرب، وتظهرها في العراق أقرب إلى جرائم الحرب منها إلى عمليات إبادة الجنس! وإذا كان المشهد الفلسطيني الرهيب يتضمن جرائم الحرب فإن المشهد الثاني العراقي الفظيع لا بنفي جرائم إبادة الجنس! ولا يملك الإسرائيليون والأميركيون أية وثائق حاسمة دامغة تقطع بأن النظام الألماني النازي نظم في الحرب العالمية الثانية عمليات لإبادة الجنس اليهودي، فهم يوحون بذلك إيحاء فحسب، لكنهم يستطيعون تقديم الإثباتات القاطعة على جرائم الحرب الألمانية، وهي من نوع ما ارتكبه جميع المتحاربين حينئذ، والذي هو مدان بمجمله سواءً أكان أميركياً أم ألمانياً، لكن العالم أجمع يملك اليوم من الوثائق ما يقطع بأن الأميركيين والإسرائيليين يرتكبون جرائم الحرب وينظمون عمليات إبادة الجنس!

إن ما يفعله الأميركيون والإسرائيليون بنا اليوم هو من نوع ما فعله الأنكلوسكسون في أميركا وأستراليا، أي إبادة الجنس، وإذا كان هتلر لا يتوّرع عن فعل ذلك فإن الوثائق تؤكد أن حربه ضدّ اليهود لم تصل إلى هذا الحدّ، فهو كان يعاملهم كأقلية محاربة معادية، وبموجب منطق الحرب كان يحتجز الذين يقيمون منهم على مقربة من خطوط النار، ولم يكن ذلك همه الأساسي، بل كان همّه الأكبر ضمان أمن وسلامة جنوده، وكانت القيادة الألمانية تشتبه بقدرة اليهود على القيام بنشاط دعائي وتجسسي ضدّ قواتها، وتخشى تهريبهم للسلاح وفعاليتهم في السوق السوداء، فهم كانوا متفوّقين في هذه الميادين، ولابد من الحيلولة دون تأثيرهم على الجنود الألمان.

لقد حاول هتلر بنجاح، قبل نشوب الحرب، حثّ اليهود على الهجرة، وكان يتمنى أن يجدوا لهم وطناً خارج أوروبا التي يريد أن تنفرد ألمانيا بقيادتها، وقد طرحت مدغشقر كمشروع وطن يهودي ترعاه ألمانيا وتتحمل أعباءه، ولم يكن هتلر يمانع، طبعاً، في توجههم إلى فلسطين أملاً أن يكونوا في خدمته بعد انتصاره، بل هو ساعدهم حقاً على الهجرة إليها، وكان يرى لهم أفضلية العمل في استصلاح الأراضي، وفي القطاع المصرفي، أي أن اهتمامه بهم لم يكن يختلف عن اهتمام كرومويل الإنكليزي في القرن السابع عشر، أو نابليون وتشرشل وروزفلت في ما بعد (أقلية نشطة في خدمة أية امبراطورية سائدة) غير أن مسارات الحرب ومجرياتها أربكت المشروع الألماني اليهودي الاستيطاني، وبما أن قيادة الحركة الصهيونية أعلنت الحرب إلى جانب الحلفاء ضدّ ألمانيا فقد كانت القيادة الألمانية تصدر التعليمات التي تمليها أسباب أمنية عسكرية أكثر مما تمليها الرغبة بالإذلال والإهانة والإبادة.

كانت القيادة الألمانية تخشى أن يتكرر ما وقع في غيتو وارسو (الحيّ اليهودي البولوني) فهناك حدث فجأة، خلف خط الجبهة مباشرة، أن انفجرت ثورة في نيسان/ أبريل عام 1943، واكتشف الألمان أن اليهود أقاموا هناك سبعمائة تحصين، فقمعت الثورة، ونقل المشتبه بهم إلى معسكرات انتقال معدّة للعمل وللاعتقال، وفي تلك المجمعات عاش اليهود المأساة، فما هي تلك المعسكرات التي اعتبروها في ما بعد معسكرات إبادة؟

كان معسكر أوشفيتز الشهير في سيليزيا العليا، على سبيل المثال، قبل كل شيء وفوق كل شيء معتقلاً صناعياً مهماً جداً، يتألف من ثلاثة مجمعات رئيسية وأربعين مجمعاً ثانوياً منتشرة في المنطقة كلها. لقد كان مدينة صناعية عظيمة تعج بالصناعات المعدنية والزراعية، وبنشاطات الأبحاث الكثيرة المهمة: مناجم فحم، ومطاط صناعي، وصناعة أسماك.. الخ أي أنه لم يكن معسكر إبادة، بل ولا حتى معسكر اعتقال بما تعنيه الكلمة!

وكان يوجد في أوشفتيز رقم 2، في بيركيناو، أناس كثيرون غير قادرين على العمل، تتردى أوضاعهم الصحية في مكان وظروف العمل، وبينهم كانت أعداد من الغجر، ليس لأسباب عنصرية بل لسبب يتعلق بنظام حياتهم القائم على التجوال الدائم، وبسبب احتمال استعدادهم للجريمة! ومن المعروف في فرنسا أن رجال المقاومة الفرنسيين لم يكونوا يحبون الغجر الذين يتنقلون طوال الوقت، ويشتبهون بهم كجواسيس، غير أن قوافل الغجر استمرت تجوب أوروبا!

لقد كان همّ الألمان أثناء الحرب إرغام جميع المعتقلين على العمل كي يربحوا الحرب، وكانت تعطى في أوشفتيز دروس في التعليم المهني للشبان، من سن 12 إلى سنّ 15، أي أن المعتقلين كانوا ثروة للألمان، وضرورة للمجهود الحربي، لا يعقل تبديده أو التفريط به.

لقد كان المسؤولون الألمان عن نقل الأسرى والمعتقلين الأجانب إلى المعسكرات يصرّون على سوق أكبر عدد من القادرين على العمل، وكانت الحكومات الأجنبية التابعة، التي احتل الألمان بلادها، تصرّ من جانبها على عدم الفصل بين أفراد الأسرة الواحدة، أي على ضمّ الشيوخ والأطفال إلى القوافل (أشرنا إلى دروس التعليم المهني للأولاد في المعسكرات) وفي تلك الرحلة البائسة إلى معسكرات السخرة لم يخطر في بال اليهود ولا غيرهم أنهم يساقون إلى أي مكان للإبادة، وبالطبع هم كانوا على حق، إذ لماذا يتجشمون عناء سوقهم مسافات طويلة كي يبيدونهم؟ ولماذا لا يبيدونهم في أماكن تواجدهم؟ ثم إنه لمن الصعب تصوّر القيادة الألمانية، في خضم الحرب العالمية، تفكّر بتنظيم وتسيير قوافل بشرية محمولة للذبح، بينما هي في أمس الحاجة للقطارات والسيارات والموظفين والجنود، بل من الصعب التصوّر أنها قادرة على فعل ذلك! وجدير بالذكر أن قوافل الأسرى والمعتقلين، من اليهود وغيرهم، كانت لها الأفضلية في وسائط النقل على المواد الحربية، وذلك بسبب حاجة الألمان الماسة والقصوى للأيدي العاملة في المجهود الحربي عموماً وفي تأمين مستلزمات الحياة الداخلية.

لقد ارتكبت النازية جرائم حرب مروّعة ضدّ شعوب كثيرة ضمنها اليهود، مثلها مثل أعدائها من الدول الأخرى، لكن قصة معسكرات الإبادة ضدّ اليهود لم تتأكد بصورة قاطعة أبداً، بل إن الوثائق والوقائع تنفيها، فلم يحدث قط أن أصدر هتلر أوامر بإبادة اليهود تحديداً، فمثل هذه الأوامر التي يزعم الصهاينة أنها صدرت عام 1941 لم يرها أحد على الإطلاق، وإنه لمن المؤكد أن ما ارتكبه هتلر من جرائم الحرب لا يرقى أبداً إلى المستوى الذي يرتكبه الأميركيون والإسرائيليون في فلسطين والعراق، والذي هو خليط من جرائم الحرب وإبادة الجنس، وثابت بما لا يقبل الجدل.