كانت فرنسا الناخب الوحيد لرئيس جمهورية لبنان اثناء انتدابها عليه بين عامي 1920 و1943 الذي مارس خلاله رئيسا الجمهورية والحكومة بشارة الخوري ورياض الصلح استقلال بلادهم أولاً بتعديل الدستور وثانياً بمواجهة الرفض الفرنسي القمعي للتعديل بمساندة قوية من غالبية الشعب اللبناني، أو بالأحرى كانت هي التي تعين الرؤساء. اما الآخرون الذين كانت تترك لمجلس النواب مهمة انتخابهم على قلتهم فانها كانت تقيلهم اذا كانت تعتبر وجودهم في رئاسة الدولة ماساً بمصالحها وتحديداً بانتدابها. وعندما كانت تشتم رائحة انتخاب رئيس غير منسجم معها فانها كانت تبادر الى حل مجلس النواب والى شغل الرئاسة الاولى بالتعيين وقد حصل ذلك مع الشيخ محمد الجسر الذي كان فوزه مرجحاً بل مضموناً. لكن فرنسا خسرت دورها الوحيد المشار اليه اعلاه بانتخاب الشيخ بشارة الخوري رئيساً عام 1943 الذي حظي بمساندة من بريطانيا التي كان لها ممثل مقيم في لبنان هو الجنرال سبيرس.

اما في استحقاقات الانتخابات الرئاسية منذ الاستقلال الذي بدأ عام 1943 وحتى اليوم فان "ناخبي" الرئاسة الاولى، من غير اللبنانيين طبعا، كانوا على النحو الآتي:

عام 1952 اسقط اللبنانيون بعد اضراب استمر لثلاثة ايام الرئيس بشارة الخوري وانتخب مجلس النواب مرشح الجبهة الوطنية الاشتراكية التي دعت الى الاضراب النائب كميل شمعون رئيساً مكانه وكان لبريطانيا دور مهم بل اساسي في هذا الانتخاب على حساب الزعيم الوطني الراحل حميد فرنجية.

عام 1958 "انتخبت" مصر جمال عبد الناصر والولايات المتحدة قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بعد "حوادث" سميت ثورة اندلعت عام 1958 واستمرت أشهراً.

عام 1964 "انتخب" الرئيس فؤاد شهاب شارل حلو خلفاً له بتأييد او بموافقة من فرنسا واميركا. وقيل في حينه ان الدور الفرنسي في هذا الانتخاب كان مهماً.

عام 1970 انتخب اللبنانيون مرشحهم لرئاسة الجمهورية وكان الرئيس الراحل سليمان فرنجية على حساب من ايدته مصر عبد الناصر. وتم ذلك بسبب اساسي هو شعور الولايات المتحدة ومعها مصر ان اياً من المرشحين للرئاسة الاولى لن يشكل في حال انتخابه خطراً على المصالح الاميركية وعلى النفوذ الاميركي في لبنان بل في المنطقة.

عام 1976 "انتخبت" سوريا واميركا رئيس دولة لبنان في خضم حرب مسيحية – فلسطينية كانت بدأت تتحول حرباً أهلية. وكان الرئيس الراحل الياس سركيس.

عام 1982 كانت اسرائيل تريد انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيساً وخصوصاً بعد غزوها لبنان. ونجحت في ذلك بعدما حاز بشير قبولاً اميركياً في اعقاب اجتماعات عدة عقدها مع مسؤولين اميركيين كبار. وبعد مقتله "انتخبت" اسرائيل وسوريا وغيرهما ومعهم اللبنانيون شقيقه الشيخ امين بدلاً منه.

عام 1989 "انتخبت" المملكة العربية السعودية واميركا النائب في حينه (الراحل) رينه معوض رئيساً بعد نجاحهما في رعاية اتفاق النواب اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية على انهاء الحرب في لبنان وعلى بدء مسيرة اصلاحية دستورية وسياسية متنوعة. وبعد اغتيال معوض "انتخبت" سوريا وحدها النائب الياس الهراوي رئيساً.

عام 1995 مددت سوريا وحدها ولاية الهراوي ثلاث سنوات رغم اعتراض غالبية النواب. وعام 1998 "انتخبت" وحدها قائد الجيش العماد اميل لحود رئيساً للجمهورية، وعام 2004 مددت ولايته ثلاث سنوات بالاكراه ودونما اخذ موقف الشعب اللبناني وممثليه حتى الذين منهم حلفاء لها في الاعتبار.

ماذا يستنتج من ذلك كله؟

يستنتج امران. الأول، ان الدور الخارجي من عربي واجنبي كان حاضراً دائماً في انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية. والثاني، ان هذا الدور كان يتعاظم ويعتدل اي يضعف تبعاً لتغيّر الاوضاع في المنطقة والعالم وتبعاً للوضع الداخلي في لبنان ولمدى الحيوية في حياته السياسية. طبعاً لا يرمي هذان الاستنتاجان الى تدعيم رأي الذين كانوا يقولون لاسباب معلومة اي تبريراً "لانتخاب" سوريا رئيس لبنان منذ عام 1989 حتى الآن ان رئاسة لبنان كان الخارج يقررها دائماً، بل الى الاشارة الى ان هذا الدور كان دائماً موجوداً. لكنه كان يتحول حاسماً ومقرراً عندما كانت اوضاع لبنان غير مستقرة ومضطربة سياسياً وامنياً وكان يتحول ناصحاً او مرجحاً عندما كانت اوضاعه تسمح بممارسة اللبنانيين حياة سياسية نشطة. ويعني ذلك ان من يرجحه الخارج او ينصح به "الاكثرية" النيابية كان له اجمالاً حضور سياسي ودور في بلاده وكان من ينافسه له بدوره حضور ودور.

لماذا هذا الكلام الآن عن الاستحقاقات الرئاسية الماضية؟

اولاً: لأن مصير الولاية الممددة للرئيس الحالي اميل لحود صار محسوماً اي انتهاؤها قبل الموعد الدستوري لها اذا جاز التعبير. وقد عكست ذلك في الاسابيع القليلة الماضية مواقف معظم الجهات السياسية اللبنانية على خلافاتها المستحكمة وانقساماتها المعروفة سواء على قضايا داخلية او على تشعبات لها اقليمية ودولية.

وثانياً: لأن رئيساً جديداً لجمهورية لبنان يفترض ان "ينتخبه" مجلس النواب اللبناني في المستقبل المنظور وخصوصاً اذا نجح المؤتمر الوطني للحوار الذي ينعقد بدعوة من الرئيس نبيه بري منذ الخميس الماضي في التوصل الى تفاهم وطني شامل على كل القضايا الخلافية او اذا نجح في الاتفاق على الحد الادنى وفي التفاهم على متابعة الحوار لاحقاً.

وهذان الامران يثيران في عقول اللبنانيين الاسئلة الآتية: من سينتخب هذه المرة رئيس جمهورية لبنان؟ هل سيكون الخارج ناخباً اوحد او بضعة ناخبين؟ هل سيكون الخارج ناصحاً ومرجحاً وليس ناخباً؟ وأي خارج هذه المرة سيكون له الدور الاكبر؟ وهل سيكون للبنانيين دور مهم في انتخاب رئيس جديد لجمهوريتهم في هذه المرحلة الخطيرة والدقيقة من تاريخ وطنهم والمنطقة؟

هل من أجوبة عن هذه الاسئلة؟

لا اجوبة نهائية عنها حتى الآن عند أحد. لكن ما يمكن استنتاجه من مراقبة التطورات اللبنانية وتشعباتها الاقليمية والدولية هو الآتي:

لن تكون سوريا ناخباً لرئيس جمهورية لبنان هذه المرة. لكن لن يكون الرئيس الجديد، أياً يكن اسمه، معادياً ورافضاً لما يتوافق العالم واللبنانيون على انه مصالح مشروعة لها في لبنان. علماً ان هذه المصالح يفترض ان لا تمس بثوابت لبنان مثل السيادة والحرية والاستقلال. وعلماً ايضاً ان من يحافظ عليها او يحميها الدولة اللبنانية وحدها من دون أي شريك لبناني داخلي وكذلك من دون شريك سوري في الداخل اللبناني.

قد يكون للمملكة العربية السعودية ومصر دور ناصح في الاستحقاق الرئاسي اللبناني. وقد يكون للمجتمع الدولي ممثلاً باميركا وفرنسا دور ناصح ايضاً فيه. علماً ان الدورين العربي والدولي هذين لن يتناقضا بل سيتكاملان.

دور اللبنانيين في انتخاب رئيس جمهوريتهم هذه المرة سيكون كبيراً ويجب ان يكون كبيراً. فهناك حياة سياسية نشطة رغم عدم الاستقرار القائم (تحالف 8 آذار – تحالف 14 آذار – التيار الوطني الحر...) وهناك الى حد ما توازن في ميزان القوى الداخلي. كما ان القيادات الكبرى حكيمة وواعية بكل ما يجري داخل البلاد وفي المنطقة.

لن يكون لايران الاسلامية دور في "انتخاب" رئيس لبنان. لكن هذا الاخير لن يكون عدواً لها أو بالأحرى لحلفاء لها في لبنان. ولن يكون هناك دور ايضاً لاسرائيل في هذا الاستحقاق والرئيس الذي سينتخب لا يستطيع ان يخرج لبنان من الصراع العربي – الاسرائيلي ولكن على نحو لا يعرّضه للحروب مرة أخرى.