أراني اليوم أتفوّه بكلام لم أكن أرضاه لنفسي في يوم من الأيام.

أنا مسلم. أنا مؤمن، والحمد لله، ألتزم فرائض الإسلام الخمس. أديت فريضة الحج ثلاث مرات وأديت العمرة مرات لا تحصى. أسعى جاهداً لأن أكون أميناً على القيم الإسلامية،

والإسلام دعوة للتقوى والصلاح والصدق والأمانة والإحسان، مع الإدراك بأني إنسان غير معصوم عن الخطأ، وإن كنت، والحمد لله، لا أشعر بأنني ارتكبت يوماً خطيئة. مع ذلك أجد راحة في استغفار الله رب العالمين كلما خلوت إلى نفسي.

والمذاهب في نظري ومفهومي من البدع الدخيلة على الإسلام. الكتاب واحد، والرسالة واحدة، والرسول الأكرم واحد، مع ذلك تشظى المسلمون مذاهب، بين سني وشيعي وعلوي ودرزي، وتفرّع السنة مذاهب بين حنفي وشافعي وحنبلي ووهابي وما إلى ذلك. والمذاهب تشعّبت طرقاً: وما أكثر أصحاب الطرق. وفي العصر الحديث تنابتت الحركات الأصولية على ألوانها انطلاقاً من اجتهادات متفاوتة، ونشطت في كل مكان، وبرز تيار تكفيري وأخذ يصدر الأحكام المدمرة يمنة ويسرة فكان أن خلّف صورة سلبية مضللة عن الإسلام تتنافى مع ما يتسم به في جوهره من تسامح وانفتاح. وما الديموقراطية إلا ترجمة عصرية للشورى في الإسلام.

أراني بكل بساطة غير معني بكل ذلك. لا أفهم لمَ لا يكون الجامع، كما يوحي اسمه، جامعاً، أي واحداً، يمارس الفرد فيه عبادة ربه بصرف النظر عن هويته المذهبية أياً تكن. لماذا لا يصلي السني والشيعي في مسجد واحد؟ لماذا لا يخاطبهم إمام واحد؟ ألا يلتقون جميعاً في الجامع المركزي سنوياً، حول الكعبة الكريمة في مكة المكرمة؟ فلماذا لا يلتقون ظهر يوم الجمعة من كل أسبوع في مسجد مشترك؟ أنا من الذين يأنسون صدقية الرأي الشرعي في علماء فقهاء مثل المغفور لهما عبد الله العلايلي وصبحي الصالح من أهل السنّة، والمغفور له الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله أطال الله عمره، من الشيعة.

نقول هذا ونتطلع إلى ما يجري في ساحة العراق من نزاعات وصدامات مذهبية مفتعلة مروّعة. نتساءل مع مَن يتساءل: علامَ التذابح والتناحر؟ علامَ كل هذه الجرائم التي تُرتكب يومياً في حق الإنسانية باسم الدين والله فيما الدين واحد والله واحد؟ علامَ كل هذا التمادي والفجور لا بل الجنون؟ لم يكن ذلك إلا في ظل الاحتلال والوقيعة نهجه.

أنا سني في المذهب السياسي. فالمذهبية هي العلامة الفارقة في الحياة السياسية في لبنان. وكنت أرى في السنّية السياسية رأس حربة للوطنية في لبنان، وللقومية في الأمة العربية. السنّية السياسية على ما أعهدها مرادفة لالتزام وحدة لبنان المجتمع والوطن والدولة، والسنّة من الفئات اللبنانية النادرة التي تجد لها حضوراً بشرياً ملحوظاً في المحافظات اللبنانية الخمس. إنهم كثرة في العاصمة، وهم ذوو حضور وازن في الشمال والجنوب والبقاع، وماثلون بفعالية في الجبل. فوحدة لبنان بالنسبة إليهم معطى طبيعي وحيوي، لا بل هي مصلحة ومصير. وهم على المستوى القومي كانوا شارع جمال عبد الناصر الصاخب، وكانوا ولا يزالون درع القضية الفلسطينية في وجه كل ما يحاك ضدها إقليمياً ودولياً، وحصناً لفكرة العروبة وما ترمز إليه من حلم التضامن والتكامل بين العرب، لا بل مشروع اتحاد بينهم في يوم من الأيام.

وأقف اليوم مشدوهاً أمام ما يصدر أحياناً عن بعض هؤلاء وبعض قياداتهم حول العروبة وإسرائيل والعلاقة مع سوريا. ولا أجد تعليلاً لما هو في منزلة المروق، من باب تعزية النفس وليس إقناعها، سوى أن ما نسمع ليس مواقف أو توجهات بل مجرد انفعالات وردات فعل لن تلبث أن تتلاشى فيعود المؤمن إلى إيمانه ويعود الأصيل إلى أصالته في الموقف والمعتقد.

هناك مَن يتهم سوريا بقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري، رحمه الله، ويبني على هذا الحكم مواقف وتصورات. العجب هو القطع بالاتهام قبل انتهاء التحقيق الدولي وتحديد المسؤوليات على الوجه القانوني. هذا لا يعني تبرئة أي سوري سلفاً من قريب أو بعيد. ولكنه يعني أنه، في حال ثبُت ضلوع مواطن أو مسؤول سوري أو أكثر في الجريمة النكراء، فإن المدانين يجب أن يُلاحَقوا وينالوا ما يستحقون من عقاب.

كان بين المشتبه فيهم حتى اليوم مسؤولون أمنيون لبنانيون، تمّ توقيفهم وما زالوا قيد المساءلة، ولكن لبنان الدولة لم تُتهم ولا للحظة واحدة بالجريمة المنكرة. فلماذا تُتهم سوريا الدولة سلفاً قبل أن ينجز التحقيق، وإن كان ثمة احتمال أن يكون مسؤولون معينون متهمين بالضلوع في الجريمة النكراء؟ ثم أين مصلحة لبنان الاستراتيجية، وهل يجوز لنا أن نتناساها؟ ثمة شبه إجماع على التمسك بعروبة لبنان، وقد حسمت قومية لبنان في اتفاق الطائف الذي قضى بعروبته انتماءً وهوية. فكيف تستقيم عروبة لبنان من دون أطيب العلاقات وأسلمها مع سوريا التي تشغل أكثر من ثمانين في المئة من حدود لبنان البرية؟ وهذا لا يكون بالطبع إلا في إطار الاحترام المتبادل لسيادة الدولتين وكرامة الشعبين وحرية البلدين. هل نقفز في عروبتنا فوق دمشق إلى بغداد أو القاهرة أو الرياض أو أي عاصمة عربية أخرى؟ وهل ندع فجور ممارسات أجهزة الاستخبارات في مرحلة من المراحل أن يخرّب العلاقات بين البلدين الشقيقين نهائياً؟

أنا مسلم سني، ولكن هل يُنسيني هذا الواقع أنني لبناني أولاً وآخراً؟ وإذا سلّمت بلبنانيتي، كما يجب بالطبع أن أفعل، فهل يصرفني نسبي الإسلامي، ولا أقول السنّي، عن واجباتي تجاه وطني، وبالتالي تجاه سائر أبناء الشعب اللبناني وفئاته. فمن موقعي لبنانياً ألست مسؤولاً عن أخي المواطن المسيحي تماماً كما أنا مسؤول عن أخي المواطن المسلم؟ أليس المسيحي والمسلم أخوين شريكين في المواطنة اللبنانية؟ فكيف يجوز التمييز أو المفاضلة بين أخ وأخ في العائلة اللبنانية الواحدة؟ أنا لبناني بقدر التزامي معاني المواطنة اللبنانية الحقة ومترتباتها. فأنا لبناني عربي وأعتز بلبنانيتي وعروبتي.

أما التمايز الديني بين مسلم ومسيحي فشأن لا يفقد في الود قضية بين أبناء الشعب الواحد أو الأمة الواحدة من قريب أو بعيد، اللهم إلا عند ذوي المآرب المبيتة وذوي العصبيات العمياء.

ولنعد إلى الكلام الطائفي المحظور. إن المسلم مُلزم دينياً احترام المسيحي في حرية معتقده:

ألم يقل الله تعالى في كتابه الكريم: <<قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نُشرك به شيئاً>> (سورة آل عمران).

وجاء في كتاب الله الكريم: <<قالوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نُفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون>> (سورة البقرة).

كما جاء في كتابه الكريم: <<ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى>> (سورة المائدة).

ولا يسعني، وأنا مسلم من لبنان، إلا أن ألمح إلى تجربتي الشخصية الحميمة في هذا الصدد: تزوجت من سيدة مسيحية من بلدة دير القمر أحببتها حباً جماً. واحتفظت هي بعقيدتها الدينية طوال حياتنا الزوجية السعيدة التي دامت أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، ولم يكن في الأمر أدنى إشكال أو مشكلة. وما كان هذا خروجاً على الإسلام من قريب أو بعيد (فلقد كانت إحدى زوجات الرسول الأكرم قبطية). وقبل أشهر من وفاتها، رحمها الله، وكانت على فراش المرض العضال في حال من المعاناة الشديدة، توجّهت إليّ بكلمة مقتضبة تنمّ عن تصميم قاطع قائلة: <<أريد أن أعتنق الإسلام>>. فسألتها للتو: <<لمَ تقرّرين ذلك الآن؟ هل أنتِ مقتنعة بما تقولين؟>>، وعندما أكدت عزمها، كرّرت السؤال: <<هل أنتِ واثقة مما تطلبين؟>>، فأفحمتني، لا بل سحقتني، ببساطة الجواب: <<صمّمت على أن أدفن في قبر واحد معك>>.

وأنا اليوم ما زلت على موعد مع الغائبة.

وأنا المواطن المسلم أخاطب اليوم أخي المواطن المسيحي، من وحي ما سمعتُ من رفيقة حياتي، فأقول: بكل بساطة، <<أريد أن أعيش معك يا أخي في وطن واحد>>.

لذا اعتنق الديموقراطية التوافقية، فهي سبيلنا إلى العيش الكريم الرغيد الهانئ، الذي تُزهر في فيئه ملكات شعبنا المهدرة وتتفجر طاقات أمتنا الزاخرة