سِعْرُ المعارضة السورية يبدو رخيصاً جداً عند الإدارة الأمريكية. فالمبلغ المرصود ل”المساعدة” لايكفي لشراء عميل واحد من نوع أولئك الذين سبق واشترتهم من بعض المعارضات العربية! لعل السعر ذاك يتناسب وصورة تلك المعارضة في وعي الأمريكيين. وإذا كان الأمر كذلك، فتلك شتيمةٌ يوجهونها إليها من غير خجل مما يفعلون. أما إذا كان المبلغ إياه ثمناً لإسقاط النظام في سوريا، فظني بدافعية جَهَلةٌ لا يعرفون شيئاً عن أوضاع السياسة والسلطة في بلادنا العربية!

يقدم الإعلان عن اعتزام صَرْف هذه “المساعدة” اليوم دليلاً متجدداً على أن إدارة بوش ستظل حتى إشعار آخر ضحية معلوماتها الخاطئة المستقاة عن بعض دول العرب: إما من استخباراتها محدودة الاختراق لنسيج قسمٍ من تلك الدول، أو من بعض عملائها العرب من المقيمين خارج أقطارهم، المرتبطين بالمخابرات أو الخارجية أو البنتاجون. التجربة في العراق مثال الأمثلة على ذلك: دخل الأمريكيون بلاد الرافدين، فما وجدوا جيشاً ينثُر عليهم الورود والأرُزَّ، ولا أسلحة دمار شامل تنتظرهم لإخراجها من مخابئها. وجدوا جيشاً قاتلهم ببسالة لثلاثة أسابيع، ثم شعباً خَلَفَهُ في القتال ولا يزال. أما الأسلحة التدميرية، فوُجِدَت في رؤوس مَن قطعوا بوجودها!

على أن أسوأ ما في هذا القرار الأمريكي أن يوجّه إهانة بالغة للمعارضة السورية ولشرفها الوطني والسياسي. إنه لا يوحي فقط بأنها قابلة للتعاون مع الإدارة الأمريكية من أجل تغيير النظام في سوريا، أي قابلة لتقديم السخرة السياسية لسياسات البيت الأبيض حيال وطنها، بل يوحي بأن اتفاقاً معها في هذا الشأن حصل وتحددت المبالغ المرصودة لإنفاذ مفاعيله. ومعنى ذلك ثانياً أن هذه المعارضة ليست تختلف عن سابقتها العراقية على الرغم مما بذلته من جهد في باب بيان تمايزها عن تلك وتشديدها المستمر على التمسك باستقلال الوطن وسيادته، ورفض أي شكل من أشكال التعاون مع الأجنبي. وليس يحتاج المرء الى كبير ذكاء ليدرك أن الهدف الأمريكي من الأمر كله هو تلويث سمعة المعارضة السورية لدى الشعب والإيقاع بينها وبين النظام.

نعرف تماماً أن بعض المعارضة التلفزيونة في الخارج لا يكاد يعرف عن “رموزها” أحدٌ من الناس داخل سوريا حَسَمَ أمرهُ في المراهنة على أمريكا لإحداث التغيير، ووضع نفسه تحت تصرُّف جدول أعمالها السياسي منذ مناقشات الكونجرس لمشروع “قانون محاسبة سوريا”. لكن هذا البعض بعضٌ وليس يمثل المعارضة بأطيافها السياسية المختلفة، ومن غير المشروع أخْذُ كل المعارضة الوطنية بجريرة هذا البعض الذي باع وطنيته للأجنبي وسقط في فخ المماهاة بين العداء لنظام سياسي والعداء للوطن.

ومع أكيد عِلْمنا بأن المعارضة الوطنية الديمقراطية في سوريا تَرْبَأ بنفسها عن قبول “مساعدات” من دولة تتربص بالوطن وتتطلع الى إسقاط دوره في إقليمه العربي، ومع علمنا بأن الأعمَّ الأغلب من قواها السياسية المختلفة (اليسارية، والناصرية، والإخوانية) سارع منذ احتلال العراق وإقرار “قانون محاسبة سوريا في الكونجرس ثم التصديق الرئاسي عليه إلى إعلان موقف سياسي قاطع برفض التعامل مع جدول الأعمال السياسي الأمريكي حيال دمشق (وارتفعت أصوات تقول للأمريكيين بأنهم لن يجدوا في سوريا أحمد شلبي سوري).. (مع ذلك كله)، لا مندوحة للمعارضة الديمقراطية السورية من إعلان موقف رسمي عام من مسألة “المساعدات” الأجنبية (الأمريكية هنا) لاتصال هذه المسألة بصورتها وصدقيتها. بل لا بد لها من أن تشدد مجدداً على تمايز برنامجها السياسي الديمقراطي عن أية “أجندة” سياسية خارجية، وأن تعلن موقفاً صريحاً من إقدام بعض المحسوبين على المعارضة على الدخول في حوارات سياسية مع جهات أمريكية رسمية. والأمل في أن تُقْدِمَ قوى “إعلان دمشق” على إعلان مواقف صريحة من هذه المسائل من أجل تبديد الالتباسات التي شابت ذلك الإعلان وأسالتْ مِداداً غزيراً حوله منذ أربعة أشهر.

وليس على المعارضة وحدها أن تُقدِّم تطمينات بعدم ضلوعها في أية علاقة، ومن أي نوع، بالسياسات الخارجية حيال سوريا، وباستقلال برنامجها السياسي المتطلع الى الإصلاح الديمقراطي، بل على النظام في سوريا أن يبادر من جهته الى فتح حوارٍ وطني حقيقي مع المعارضة للبحث في إجراء إصلاحات جدية تستجيب لمطالب المجتمع والشعب في التحول الديمقراطي السلمي، وتعيد تأهيل سوريا داخلياً، وتزوِّد الدولة والمجتمع بمؤسسات تمثيلية ذات مصداقية. إن السبيل الوحيد الى قطع الطريق على استغلال الإدارة الأمريكية للمعارضة السورية، أو اختطاف دورها الديمقراطي، ومصادرة قرارها الوطني لمصلحة جدول أعمال الأجنبي، هو انفتاح النظام على تلك المعارضة وإعادة استيعابها في مشروع شراكة للإصلاح والبناء الديمقراطي. وأمام النظام، اليوم، فرصة لإفشال الضغط الأمريكي وتجنيب البلد سيناريو التوسُّل الأجنبي ببعض المعارضة كما حصل في العراق وهي (أي الفرصة) وَضْعُ “خطاب القَسَم” للرئيس بشار الأسد موضع التنفيذ، ووضع حد للبطء الشديد في عملية الإصلاح. وحدهُ ذلك الخيار يفوِّت على الأجنبي فرصة تحريك الداخل السوري ضد نفسه، ووحده يكفل لسوريا تحصين جبهتها الداخلية في مواجهة الضغط الأمريكي “الإسرائيلي”.