حسام صديق مصري يعمل في لبنان منذ أكثر من عشر سنوات التقيت به أخيراً بعد عودته من تأدية مناسك الحج هذه السنة. وكالعادة تمت مناقشة الأوضاع السياسية كما في كل جلسة لنا.

لاحظ حسام في هذا اللقاء وجود رأي عام عربي، بمقدار ما كان متعاطفاً مع لبنان لدى مقتل الرئيس رفيق الحريري، بمقدار ما هو متعاطف الآن مع سوريا في ما يسمى الحملة الأميركية عليها لدفعها إلى تقديم تنازلات في ما يتعلق بالصراع مع إسرائيل وبالموقف من العراق.

وانتهى حسام إلى القول إنه لو لم يكن يعيش في لبنان لربما كان موقفه مماثلا لهذا الموقف، إلا أن حياته في لبنان ومعرفته الدقيقة بالتجربة المرّة للنظام السوري فيه والتي لا علاقة لها لا بالتحرير ولا بالصراع مع الامبريالية، بل في نظام دولة ذات طابع مافيوي لا يحترم استقلال لبنان، ويريد هذا البلد ملحقاً به وبوابة لممارسة نشاطاته المافيوية، معتمداً في فرضه سياسته هذه سلاح التفرقة الطائفية في البلاد. وتابع الصديق حسام قائلا إن وجوده في لبنان جعله يصل إلى هذه الحقيقة ولولا وجوده فيه لما أمكن ذلك.

والسؤال كيف يمكن العمل على جعل الشعوب العربية تصل إلى ما وصل إليه الصديق حسام من معرفة للحقيقة وليس لظاهر الأمور؟

وما العمل أمام ملايين العرب الذين يرون الأمور بين لبنان وسوريا بشكل مختلف لأنهم لايعرفون الحقيقة كاملة؟ إن النقطة الأساسية في ما يجب أن يعرفه العرب أن سياسة النظام السوري في لبنان منذ دخوله كانت قائمة على الإمساك بالبلد عبر كسب ثقة مختلف أبنائه من مسلمين ومسيحيين.

إلا أن المسيحيين لم يعطوهم تلك الفرصة أبداً فاستبدلوا هذه الخطة بخطة بديلة قوامها انه بعد الفشل في استقطاب القوى المسيحية إلى جانبهم لا مانع لديهم أن يتوسلوا الحصول فقط على تأييد المسلمين. ووضعوا على أساس ذلك نهجاً لسياستهم يتغاضون بموجبه عن وقوف المسيحيين ضدهم لكن كي يمنعوا على أي مسلم أن يأخذ هذا الموقف.

ويذكر الكل أن مجرد انتقاد الزعيم الوطني وليد جنبلاط لهم صراحة اعتبروه كارثة سياسية بحقهم كما اعتبروا موقف الرئيس الراحل رفيق الحريري الضمني ضد سياستهم موقفاً تدميرياً لهم. كما يذكر الجميع كيف أوقعوا الحُرْم على الحزب الشيوعي (وهو حزب علماني) لمجرد انه دعا في انطلياس إلى لقاء القوى المتصارعة في الحرب الأهلية اللبنانية بمختلف فئاتها وطوائفها في محاولة لترجمة شعار المصالحة الوطنية الذي طرح في مؤتمر الطائف.

ويذكر الجميع أن السوريين كانوا يتسامحون في الانتقادات التي كانت توجهها القوى المسيحية ضدهم ليس لأنها غير مهمة ولكن لأنها تعبر عن موقف فئة من اللبنانيين في نظرهم وليس عن جميعهم وطالما أنها تعبر عن فئة فإن ذلك يصب في مصلحتهم لأن بقاءهم مرهون بتناقض المواقف منهم على أساس طائفي. كان هاجس السوريين دوما أن لا يتفق اللبنانيون وما زال هاجسهم حتى الآن.

فالمهم عندهم إيجاد حالة انقسام في الشارع اللبناني ما بين مؤيد لهم ومعارض طالما أنهم لم ينجحوا في تأمين الإجماع على تأييد سياساتهم.

وهم حين يرغبون في قيام حالة معارضة في الوسط المسيحي فلكي يقابلها حالة موالاة في الشارع الإسلامي.

إن هذا المنهج لا يعرف العرب عنه شيئاً بالرغم من أن الفضائيات لعبت دوراً في إبراز أوجه التعارض في الموقف من الوجود السوري في لبنان، بين مؤيدي الموقف السوري ومعارضيهم. علماً بأن هذه الفضائيات ليست في متناول الغالبية الساحقة من أبناء الشعوب العربية.

فبالنسبة إلى العرب (وقد عبر عن هذا الموقف اتحاد المحامين العرب الذي عقد مؤتمره في دمشق) سوريا تتعرض فقط لهجمة أميركية – غربية تستهدف تركيعها بسبب مواجهتها المخطط الأميركي في قضية الصراع العربي – الإسرائيلي.

طبعاً إن ما يزين الموقف السوري تجاه العرب تحالفه ودعمه لـ"حزب الله" في لبنان الذي يحفظ له العرب دوره في عملية تحرير جنوب لبنان من إسرائيل عام 2000 ويعتبرون أن سوريا لعبت دوراً ايجابياً في عملية التحرير (وهم على حق في ذلك).

والسؤال هو كيف يمكن لبنان أن يقنع العرب أن الموقف الحالي للشعب اللبناني من النظام السوري ليس سببه أنها كانت طرفاً داعما للمقاومة الإسلامية في جنوب لبنان. وعلى العكس من ذلك فإن الشعب اللبناني يحفظ لهم هذا الموقف باعتباره مرحلة من مراحل عملية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الجولان وكامل الأراضي العربية المحتلة بعد عام 1967 مستقبلا، وهو أمر يفرح اللبنانيين ويسعدهم. كما يسعدهم أكثر وجود إستراتيجية واضحة ومقنعة وعملية لدى سوريا لتحرير الجولان، لا أن تترك الأمور على إطلاقها.

والمهم أيضا كيف يمكننا أن نُفهم الشعوب العربية أن رغبة اللبنانيين في البحث عن حماية كرامتهم المفقودة إبان الوجود السوري في لبنان وتوقهم إلى الاستقلال والتحرر لا يصب في خانة معاداة النظام السوري في خياره في المواجهة السياسية مع الأميركيين والتي له مطلق الخيار في تحديدها. كما أن للبنانيين مطلق الخيار في تحديد أولويات الحفاظ على وجودهم واستقلالهم وحريتهم. إن لدى الشعوب العربية ميلا إلى تبسيط الأشياء حتى لو كان هذا التبسيط من شأنه أن يؤدي إلى سطح الأشياء وليس إلى حقيقتها. من هنا فإن مهمة شرح الأمور لهم ليست مهمة سهلة.

واذكر أننا خلال الستينات كنا متحمسين للرئيس الراحل جمال عبد الناصر لأننا كنا نراه نجماً أسطوريا في مواجهة الغرب الامبريالي وكنا نفاجأ بعدم حماسة المثقفين المصريين لمواقفنا هذه وملاحظاتهم على النظام الناصري لجهة تقييد الحريات وسوق الآلاف إلى السجون والمعتقلات بدون محاكمة والفساد لدى طبقة الضباط المستفيدين من النظام الخ... يومها كنا نستغرب مواقفهم كما يستغربون اليوم مواقفنا ولم نكن نعرف أن من يأكل ضربات العصا ليس كمن يعدها.

ما أشبه الليلة بالبارحة، فالعرب ينظرون إلى واقع العلاقات اللبنانية – السورية كما كنا ننظر سابقا إلى الرئيس عبد الناصر، في حين أننا ننظر إليها كما نظروا إلى العلاقة مع النظام الناصري سابقا. يومها لم يرَ اللبنانيون المؤيدون لعبد الناصر غير وجهه المناهض للاستعمار، في حين إن الشعب المصري كان يعيش يومياً مرارة الفقر والشظف والقهر من الوسائل الاستبدادية وتحكم الاستخبارات بحياته وكراماته. إلا أن ما يجب الالتفات إليه أن مستوى الوعي كان يجب أن يتغير بعد خمسين سنة من تجارب الشعوب العربية المرّة مع الأنظمة العسكرية المتجلببة برداءات مختلفة: من النظام العراقي البائد إلى أنظمة سوريا وليبيا واليمن وتونس والسودان، كان يجب أن تكون ممارسات هذه الأنظمة وما آلت إليه حال البلدان معها دروساً تجعل الشعوب العربية تفكر بطريقة أخرى.

إلا أن ذلك يبدو ويا للأسف أمرا بعيد المنال حتى الآن. فماذا نفعل حتى نقنع الشعوب العربية بصواب قضيتنا؟ هل نأتي بهم جميعاً إلى لبنان كما أتى الصديق حسام؟