على الرغم من العمر القصير لمنظمات حقوق الإنسان السورية العاملة في الداخل، فإن ممارستها تستوجب التقويم من قبل أي مهتم بالبحث عن مستقبل حركة حقوق الإنسان في سورية.

وإذا كان البحث في هذا المجال يتطلب بطبيعته شفافية أوضاع هذه المنظمات وتوفر قاعدة البيانات العلنية في كل ما يتعلق بحياتها الداخلية وممارساتها، فإنه يتطلب أولا مراجعة الوضع المؤسساتي لهذه المنظمات ونشاطها، وذلك ما يتأسس على كل من اللوائح الداخلية لهذه المنظمات من جهة وقوانين الدولة ( قانون الجمعيات)ونظم مؤسساتها ( الوزارات ذات العلاقة) من جهة أخرى.

هذا الأمر يضع البحث واقعياً أمام عوائق ميدانية ومعرفية، كون وضع المنظمات المقصودة غائما وملتبسا نظراً لمنع الترخيص القانوني لها، مع أن بعضها يمتلك الحق القانوني في الإشهار، كما في حالة جمعية حقوق الإنسان، والتي لديها دعوى قانونية أمام المحكمة الإدارية العليا في دمشق منذ سنوات. وقد عبّر رئيس الدولة عن إشكالية هذا الوضع باختصار عندما قال : لدينا منظمات حقوق إنسان غير مرخصة لكن غير ممنوعة : (مقابلة مع جريدة الأسبوع العربي 2006/1/9) . وإذا لاحظنا أن سقف غير الممنوع متحرك، ويزداد هبوطاً منذ قمع نشاطات منتدى الأتاسي (أيار 2005) ومثاله الأخير المنع العنيف والخشن لجمعية حقوق الإنسان من عقد مؤتمر صحفي مع معتقلي ربيع دمشق المفرج عنهم (31/1/2006 )، فيمكن لنا فهم مدى جدية تلك العوائق وحساسيتها .

لكن هذه العوائق لا يمكن أن تسد آفاق البحث نهائيا في هذا المجال، الذي يطرح بقوة مشكلاته على جميع الباحثين والناشطين والمهتمين عموماً .

وإذا كنا نرى أن هذه المشكلات تشمل قوسا واسعاً يندرج في إطاره : الوضع القانوني للمنظمات، ظروف التأسيس ومراحل التطور، الخبرة والتدريب والثقافة الحقوقية، العلاقة مع الإعلام، العلاقة مع مؤسسات المجتمع المدني المحلية والعالمية، التمويل، غلبة الجانب السياسي وإفقاره لباقي الجوانب إلخ .. . فإننا نقر بصعوبة مقاربة معظم هذه المشكلات والبحث فيها، في ظل الظروف المشار إليها من عمل هذه المنظمات، وهي الظروف المرتبطة أساساً بغياب سيادة القانون الذي يعبر عنه استمرار حالة الطوارئ في سورية منذ أكثر من 42 عاما، وما يتضاعف عنها من الحساسيات والأخطار التي تتعرض لها هياكل هذه المنظمات وأشخاص ناشطيها.

لذلك سنتوقف هنا عند بعض الملاحظات حول العلاقة بين المجالين السياسي والحقوقي، اللذين يصعب الفصل بينهما، في نشاط حركة حقوق الإنسان السورية، مؤكدين أن الشواهد أو الإشارات المذكورة في سياق الملاحظة واردة فقط على سبيل المثال لا الحصر.

في النشأة :

كان من الطبيعي أن تنشأ أوائل منظمات حقوق الإنسان السورية المعاصرة ( على اعتبار ان النشأة القديمة السابقة كانت عابرة ولم تكمل مشوارها) ومعظمها على يد ناشطين مبادرين، انحدر جلّهم من العاملين في الشأن العام أو المنخرطين في جسد الحركة السياسية المعارضة، وذلك بفعل الصعود الكبير لثقافة حقوق الإنسان والمواطن ورواج الخطاب الديمقراطي، إثر انهيار المشاريع السياسية الكبرى من قومية واشتراكية. وسواء رأى بعض الملتحقين بهذه الحركة مكانة وتعويضاً عن فشل شخصي أو جماعي، أو سواء أخلص هؤلاء للثقافة الجديدة أم لا، فقد حملوا الكثير من رؤاهم الفكرية القديمة وعاداتهم إلى منظماتهم الجديدة، وكان لابد لمستقبل هذه المنظمات أن يتأثر بدرجة أو أخرى بذلك.

من هنا، نرى في بعض المنظمات ومواقفها تأثير الأيديولوجيا وخطابها السياسي وغلبته أحياناً على الخطاب الحقوقي، فقد أتى مؤسسو أوائل المنظمات المعاصرة وهي لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية من بين صفوف رابطة العمل الشيوعي، وإذا كانت مساهمة حزبيين معارضين واضحة على دورهم في تأسيس جمعية حقوق الإنسان ( 2001)، فإن عدم قدرتهم واقعياً على التفرغ للنشاط الحقوقي مثال بارز على الخلط بين النشاطين، والتضحية بالحقوقي على حساب التحاقه بالسياسي حسب ترتيب أيديولوجي للأولويات، لا تختلف فيه أحزاب المعارضة عن أحزاب الموالاة والسلطة.

وهذا ما اتضح أيضاً في ظروف تأسيس الفرع السوري للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، فمع أن أبرز مؤسسي هذا الفرع كانوا قد شاركوا مع زملاء حزبيين لهم في أعمال الاجتماع التأسيسي لجمعية حقوق الإنسان، فقد بادروا بعد حوالي سنتين، بدعوى الحاجة إلى مرجعية عربية لحقوق الإنسان، إلى تأسيس الفرع المذكور. وتحت تأثير تلك الأيدلولوجيا وانتمائها السياسي ما زال نشاط هؤلاء المؤسسين في المنظمة ونظرائهم في الجمعية متردداً بين إلحاق النشاط الحقوقي بالسياسي واعتباره فرعاً له أو ساحة من ساحاته، وبين احترام استقلالية مجاله الخاص وتميزه إلى جانب المجالات الأخرى ، وهذا ما يظهر بصورة واضحة أيضاً في مثال نشأة قريبة العهد لمنظمتين كرديتين سوريتين لحقوق الإنسان ( ماف وداد)، وهما في النهاية ليستا سوى امتداد آخر لأحزاب أو تيارات سياسية كردية.

في الخطاب :

يدعي خطاب جميع منظمات حقوق الإنسان السورية استقلاليته عن الخطاب السياسي، بل هو لا ينفك يعلن أنها محايدة سياسيا، وينشد فقط دولة الحق والقانون بما يتفق مع مبادئ حقوق الإنسان .

من هنا، جاءت في النظام الداخلي لجمعية حقوق الإنسان فقرة تقول ( تقف الجمعية على مسافة متساوية من جميع المعتقدات الدينية والمذاهب الفكرية والنظريات السياسية ومن جميع الفئات الاجتماعية، وتعمل لتعزيز استقلالها عن أي سلطة سياسية وعن أي جهة محلية أو إقليمية أو دولية) و هذا لا يتنافى بطبيعة الحال مع مطالبة الجمعية بالانفراج الديمقراطي وإطلاق الحريات العامة وإنهاء الاعتقال السياسي ، الأمر الذي دفع داعية حقوق الإنسان المحامي هيثم المالح والرئيس السابق للجمعية إلى المشاركة بالتوقيع على إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، ولم يجد في ذلك أي تناقض، بينما اختلط الأمر على مجلس الإدارة الجديد للجمعية عندما امتنع عن اتخاذ موقف من ذلك الإعلان، بذريعة أنه إعلان سياسي، ناسياً مشاركة الجمعية سابقاً مع أحزاب المعارضة في تأسيس لجنة التنسيق الوطني من أجل الحريات والديمقراطية، ومغفلاً مطالب الجمعية الدائمة والمتكررة بجملة من التغييرات الديمقراطية عبّر عنها الإعلان المذكور، بل متناقضاً مع تصريحات عضوي مجلس إدارة الجمعية المشاركين في رحلة الوفد السوري إلى أوروبا( خريف 2005) والتي تحدثت عن ( ضرورة إحداث إصلاح ديموقراطي شامل في سورية على جميع المستويات ـ المرصد 34) ثم مع أجوبة رئيس الجمعية الحالي رداً على أسئلة أبيض واسود، والتي جاء فيها (مطالبنا موجهة بالدرجة الأولى للسلطة وبالتالي نجد أنفسنا و عموما في صف المعارضة ... المرصد 35)!

هذا الاختلاط نجده أيضاً في موقف منظمة أخرى هي المنظمة العربية – فرع سورية، والتي شاركت في الاجتماع التأسيسي للجنة التنسيق الوطني من أجل الحريات الأساسية والديمقراطية، لكنها سارعت لفك ارتباطها باللجنة ونفيه بحجة كونها لجنة سياسية وتضم أحزاباً سياسية، على الرغم من تأكيد اتفاقها مع أهداف اللجنة المحددة بالدفاع عن الحريات الأساسية والمطالب الديمقراطية! ولاحقاً عبّّرت عن موقفها العملي ذاك عندما شاركت في جميع الأنشطة والمناسبات المتعلقة بتلك الأهداف ومنها الاعتصامات والحملات، ودعت إليها لكن ببيانات خاصة منفردة! ثم دفعتها ديناميكية ناطقها الإعلامي إلى موقفين شديدي الوضوح والدقة ، وذلك في إعلانه تأييد المطالب الديمقراطية الواردة في وثيقة إعلان دمشق، وكذلك المطالب المشابهة الواردة في الوثيقة الوطنية الكبرى، على الرغم من كون الأولى معبرة عن المعارضة أما الثانية فمرتبطة بدرجة أو أخرى بالموالاة.

في الحياة الداخلية :

هنا نلاحظ التناقض الواضح بين الطموح المفترض لمنظمات حقوق الإنسان السورية إلى حياة ديمقراطية داخلية تعكس بمرونة خبرات ناشطيها المتنوعة، وتغني ممارساتها انسجاما مع منطلقاتها الحقوقية، وبين الممارسة الفردية والشللية التي تعيشها هذه المنظمات واقعياً.

يمكن لتأثير العامل الحقوقي أن يظهر افتراضيا في الوضع الأول، المستند إلى مناخ دولة الحق والقانون، الذي يسمح لذلك الوضع وممارسته الديمقراطية بالنضج والتطور واعتماد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وأهدافها معياراً متكاملاً لمصداقيتها.

لكن الوضع الثاني يظهرواقعياً تأثير العامل السياسي السلبي، الذي جعل وضع هذه المنظمات غير قانوني ، فعمل على عرقلة اكتمال هياكلها ومنع استقرار تقاليد حياتها الديمقراطية، بما في ذلك اجتماعات كوادرها ومؤتمراتها وإصدار مطبوعاتها.

يظهرهنا تناقض شديد الطرافة بين عمل هذه المنظمات الساعي لكل علنية (سواء أفي بياناتها وتصريحاتها ونشراتها ومواقعها الأكترونية أم في اجتماعتها ومؤتمراتها ) وبين دفع السلطات الأمنية لها إلى العمل السري، نتيجة القرار السياسي المستمر بعدم الاعتراف بها ومنع الترخيص القانوني عنها، الأمر الذي حولها إلى منظمات أفراد، وطبع معظمها بشخصيات الناطقين الرسميين باسمها. فتمحورت نشاطات المنظمة حول مركز أشبه بمركز الأمين العام في الأحزاب السياسية التقليدية، والذي يمسك جميع الصلاحيات بيده فهو الناطق والمسؤول والمراقب إلخ، وربما الأب المعنّف أو العطوف في بعض الحالات، انسجاما مع تقليد بطريركي عميق الجذور في مجتمعنا المتأخر.

من هنا، نشأت ظواهر العزوف و الانشقاقات والاستقالات و العزل المتوالية، في لجان الدفاع والجمعية والمنظمة العربية وحتى في منظمة سواسية الأحدث نشأة، علماً أن لدى المتابعين شواهد واضحة على ذلك، وليس من المفيد ذكرها في هذا المجال.

بالتالي يصبح استمرارهذه المنظمات، في ظل الظروف المذكورة، مرهوناً بديناميكية بعض ناشطيها أكثر من ارتباطه بتحولها إلى مؤسسات ذات حياة ديمقراطية وتقاليد معيارية.

هكذا، تجرب هذه الملاحظات الصريحة والأولية أن تدفع المخلصين من ناشطي حقوق الإنسان في سورية إلى مزيد من المراجعة والتقويم لتجربتهم، التي يأمل الكثيرون في أن تلعب دورها المفترض في التنمية الإنسانية من أجل مستقبل بديل للمواطن في سورية.