نجيب نصير

يتهم بعض المثقفون العرب الحداثة، بأنها تحمل معها العنف مرتجعين إلى الكولونيالية من جهة والى الأداء الأمريكي الهمجي من جهة أخرى، عائدين في التفافة قصيرة إلى القول المأثور أو إلى المثل الشعبي: نأخذ من الحداثة ما يناسبنا ونترك الباقي محملين على عربة العنف ما يتصادم مع الرؤى التقليدية التي يحملونها في طيات التفكير المتردد والازدواجي، حيث تظهر صفة عدم الثقة بمواصفات مجتمعاتهم وخصوصياتها كعوامل قادرة على إنتاج الخير والجمال في سياق الأداء الإنساني الحداثي وكأن العنف هو جزء من الوصفة الطبية للحداثة التي تبدو في رأيهم منقوصة الأخلاق والدليل هو تنامي العنف في ظلها، وبذلك يقفون عند الخط المحايد لا يعرفون العودة إلى التراث ولا ينطلقون في رحاب المعمورة وإنجازاتها لنحول وإياهم إلى مستهلكين ثقافيين مستقرين في التردد والضبابية وكأن الحداثة وما بعدها والعولمة تنتظر ركوبنا قطارها كي يتحرك.

ان لا نصعد القطار لأن فيه عنف حسب تعبير المثقفين هو نفس خيار عدم ركوب القطار لأن فيه حرية جنسية، والتقييمين نفسهما هما خيار أخلاقي ثقافي تستطيع المجتمعات وحسب مخزونها التحكم به من خلال قيم الحرية، لقد نضح المجتمع الأمريكي بما فيه هو من عنف وبشاعة، ولكن والسؤال مشروع هنا بماذا نضحت المجتمعات العربية دون حداثة حتى ؟ أو ما هي التجربة العربية المميزة التي يمكن القول فيها انها لم تنضح عنفا ؟ ربما كنا من أكثر المجتمعات قدرة على إنتاج السلام الإنساني في حال اعتمادنا الحداثة في صوغ حياتنا المجتمعية، فالتراثية الكلاسيكية أو المهجنة وصلت إلى أكثر من طريق مسدود أو إلى أكثر الطرق انسدادا بترددها عن الانخراط في الحداثة كمشروع ارتقائي مكمل، واليوم إذا كنا نريد مشاركة العالم في عالمه فأنه ليس اقل من الهدم والتحطيم يمكنه ان يضعنا على سكة الوصول وهذا بحد ذاته عنف ثقافي أخلاقي مؤلم، حيث لا يمكن للبهلوانيات اللغوية ان تشرعن الأداء الحداثي إلا وهما وتوهما أي وبأي طريقة كانت سوف نعيد إنتاج الازدواجية التي تقودنا إلى الوهم وبالتالي الدخول في دوامة المستهلك التي تقودنا إلى العنف كمستهلكين لمنتجات الحداثة الجانبية، كما حصل في لبنان في حروبه الأهلية و كذا في الجزائر واليوم عراقيا والخ والخ ناهيك عن العنف اليومي المستتر من فساد ورشوة وتسلط.

من هنا يبدو ان السعي الحداثي لاستبدال العنف الفيزيائي والنفسي إلى حركة تنافس إنتاجي هي الطريق المقترحة .ان كان عبر الديموقراطية أو عبر الاقتصاد النشيط المنتج أو عبر الثقافة المفتوحة على الكون شرط عدم الخوف من خسارة خصوصياتنا ( وليس شرط عدم خسارة خصوصياتنا ) فما لدينا سوف يظهر مع حداثة أو دونها، لذلك لا تبدو الحداثة مسببا في العنف حتى ولو كانت ناشرة له عبر وسائلها ( انترنت سينما فضائيات ) ولكنها مضطرة على قسر المستهلك غير المنتج لعدم قدرته على الانسجام في سياق التنافس الإنتاجي البديل عن العنف، وذا كان من مصلحة المجتمعات التي تعتمد الحداثة المحافظة على اكبر كم من المستهلكين فأن العنف هو إحدى دوائر هذا الاستهلاك لأنه صادر عن أداء ثقافي محكوم بموقعه الاستهلاكي، وبالتالي فأن التحدي الحقيقي هو الانتقال إلى دائرة الإنتاج أي التنافس والمشاركة كبديل عن العنف الفيزيائي المرتبط دائما بالنفوس الصغيرة والعقول الصغيرة أيضا.

الحداثة وما بعدها لا تنتج عنفا ولكن جدلية العلاقة بين المنتج والمستهلك تضع المسألة في إطار تفاهم متخلف وبدائي والا ما الفارق اليوم بين المقاطعة الاقتصادية والحصار الاقتصادي، كأداء زاجر اقل من عنيف ؟؟؟؟؟؟