سورية في أزمة حقيقية تعيشها بخوف وقلق وارتباك شديد أشبه بحيرة الأعمى الذي يقف وسط الإعصار في نهاية منحدروعلى مفترق طرق يتبعه واد سحيق مخيف ! هذا هو التوصيف الدقيق لنظام يبدو خائفا ًيتخلخل ويفقد هيبته شيئا ً فشيئا ً وهذا مايفسرارتكابه للأخطاء الكبيرة المتواترة داخليا ً وخارجيا ً , النظام المستبد الذي أقام الدنيا وأقعدها في يوم ٍ من الأيام ,والذي كان يمسك بكل أوراق وخيوط اللعبة الإقليمية والدولية ,أصبح الآن يتوسل على دور هنا أوهناك ويتسول على أبواب المتحكمين في سيرالأموروانتهى به الحال ليكون وريقة ولعبة بيد بعض اللاعبين الجدد على الساحة الإقليمية أوالدولية ,هو باختصار أسير الإستبداد الذي بناه وغير قادربنيويا ً وفكريا ً على الخروج من كهوف الطائفية السياسية التي حكمت مسيرته حتى الآن, إن مشكلة سورية الأساسية هي صيغة الحكم فيها التي بنيت على الفردية

الديكتاتورية المغلقة والتي تعبرعن الطائفية السياسية بكامل أبعادها وأبشع صورها وأوصلت سورية الدولة والمجتمع إلى خيارات صعبة للغاية أو بشكل أدق انعدامها وحصرها في خيارين أحلاهما مر وهما استمرار الإستبداد أو الإستعماربهذا اللون أو ذاك ! تلك هي مخلفات الطائفية السياسية التي مارست العنف والتشويه في الداخل والخارج بدون حدود وقمعت صوت الشعب وألغت دورالمؤسسات المدنية والنقابية والإجتماعية وأجهضت كل بوادرتجديد داخل الحزب أو الحياة السياسية بشكل عام ولعبت على الوتر الطائفي بخسة لتحقيق أهدافها واستمرارها في السلطة , وهي بناء ًعلى بنيتها الفردية المغلقة الغير قابلة للتغيير أوالتطوير أصبحت في تضاد وطلاق مع الإصلاح والتحديث والتنوير ! فانفردت في الحكم لعقود وتحجرت أفكارها وأطرها التنظيمية في لحظة فاعليتها الإقليمية والدولية الماضية التي أفرزتها توازنات الحرب الباردة , وخارت وغطّت ولاتزال في نوم ٍعميق فيها ! .

سورية الآن حائرة وضائعة بين أزمة نظام فقد عقله وقدرته وصوابه واختلطت عليه الرغبات والأمورويحاول الرجوع إلى الوراءوإحياء الطائفية السياسية من جديد بتغييرات أشبه بتبادل المواقع لأجيال من الفساد والفاسدين والتي يحكمها عقلية النظام نفسه التي أوصلت سورية إلى هذا الحضيض

وضائعة أيضا ً بين أزمة معارضة لاتزال إلى الآن تتحرك ببطء شديد لرسم ملامح الطريق الوطني الديموقراطي التعددي للتغيير,وضائعة أخيرا ًبين موقفٍ خارجي تحكمه دوافع إقليمية ومصالح دولية, تائهه هي الأخرى في رزنامة النظام الدولي الجديد , وفي هذه اللحظة الضائعة التي تفلت تدريجيا ً من سيطرة الإستبداد , والتي تحاول التقاطها أطراف المعارضة السورية عبثا ًعلى انفراد , في ضبابية هذه اللحظة يصرخ السؤال الكبير بوجه الجميع : سورية في زمن ٍ عسير وخطير ! سورية إلى أين تسير , متى ومن سيدق أو يُخرسْ أجراس التغيير ؟ ! .

إن خيارات النظام واضحة تماما ً ويشكل القرارالدولي وتحديدا ً الموقف الإسرائيلي منه بيضة القبان في عملية التغيير من عدمها وهذا يدركه جيدا ً بل يريده علانية ً النظام ! و يعتمد أساسا ً على فعالية أداء النظام لدوره الإقليمي القديم الجديد المطلوب وفي أكثر من عقدة على الساحة الإقليمية في الظروف الحرجة الراهنه ,على أنه في العلاقات الدولية ليس هناك مقدسات بشرية أو إنسانية أوسياسية أوجغرافية أوأخلاقية وإنما هناك مصالح مقدسة تفرض دعم هذا النظام أوتغطية على آخر أو إظهارالعضلات والقوة ودق طبول التغييرهنا وهناك ! وهذا يفسر إلى حد ٍ كبيرحركة ( زكزاك) الموقف الدولي صعودا ً وهبوطا ً من النظام والأمريكي منه على وجه التحديد ,ولعل عزف النظام النشازالمنفرد على وتر الإرهاب والفوضى الذي يمارس تنفيذها داخل سورية وخارجها واستغلال المشهد الدامي في العراق وتصويره للداخل على أن التغيير في سورية سيقود إلى مثل هذا الخراب والدماروالدماء ,الأمر الذي حصر الشعب في دائرة الخوف وزاد من مساحة التيه والشكوك الموجودة أصلا ً لدى عامة الشعب في صدقية الموقف الدولي من عملية التغيير في سورية هذا أولا ً , وبنظرة واقعية واستقراء موضوعي لسياسة النظام وبشكل خاص في علاقته مع الشعب وقواه السياسية والنقابية والإجتماعية والتشكيلات الثقافية والمدنية والمعارضة السورية ككل والإصرار على إقصائها وعدم القبول بالمشاركة لها في إنقاذ البلاد إلا إذا قبلت بأن تكون أتباعا ً له وشهود زورعلى جرائمه وفساده ثانيا ً.

وبالمقابل إن خيارات المعارضة غير واضحة لا فكريا ً ولا تنظيميا ً باستثناء ( إعلان دمشق ) الذي عبر عن بعضا ً من هذا الوضوح ولكنه خاضع باستمرار للسيطرة الأمنية وتشويه النظام الذي يحاول أن يعزل الداخل عن الخارج ,الأمر الذي يربك حركته وربما يحرفها النظام بكل قوته القمعية عن الطريق الوطني التي يسير عليها للتغيير الشامل المنشود.

مشكلة المعارضة الوطنية السورية في الخارج أنها لاتزال متناثرة ومتناقضة ولم تستطع إلى الآن من ترتيب مواقفها وأفكارها والوصول إلى حالة توافق سياسي وتشكيل قطب أو تكتل واضح وتوحد خطابها للداخل ومحاولة كسبه لجانبها وكذلك للظهورأمام الرأي العام العالمي كبديل ديموقراطي وطني تعددي للإستبدادالأمرالذي يفرض عقد مؤتمروطني يحدد البرنامج العملي التوافقي للتحرك والبدء بعملية التغيير.

تأسيسا ً على هذا الواقع المتناقض الذي يعصف بسورية من كل الجهات وخطورة اللحظة الراهنة يجب على المعارضة الوطنية أن تغلق الباب المفتوح على المحهول وترتقي بخطابها الوطني الذي يفتح باب الأمل والتسامح ويطمئن الجميع في سورية وأن تتجاوزالنظام وطرحه الذي يعمق المأزق الوطني ويثير الخوف وعدم الثقة بين أبناء الوطن الواحد, وكذلك يعزل هذا الخطاب بشكل قطعي بين ضحايا النظام من كل أبناء الوطن بدون استثناء وبين جلاديه ,وهذا يتطلب منها الإرتقاء من الطرح الوطني البسيط إلى الطرح الوطني العقلاني لمشروع التغييربمعنى أن تتجاوزالفهم المنغلق والسلبي للأمور وأن ترتقي بأدائها عن الأشكال التقليدية التي سيطرت على أفكارها وطبعت سلوكها وعطلت حركتها ولم تقترب من الفعل الوطني الصحيح إلى اٍلآن ,وهنا تأتي قدرة المعارضة على التعامل الفعال مع المستجدات على المستوى الداخلي , وطريقة الحوار مع المجتمع الدولي وتجيير كل ذلك لمصلحة المشروع الوطني للتغيير.

ولعل موقف أطراف المعارضة من انشقاق السيد عبد الحليم خدام عن النظام يعبر عن حالة الشقاق الذي يلف بعض أطرافها وكان بمثابة امتحان عملي لطرحها واستعدادها للتعامل مع من حسم أمره من النظام ولو متأخرا ً وغادره وانضم إلى الوطن في هذه اللحظة العصيبة التي تحتاج إلى جهود كل الشرفاء من أبناء سورية ,وبغض عن الأسباب التي فرضت على السيد عبد الحليم خدام لإتخاذ هذا الموقف فإن المطلوب من المعارضة أن تتعامل معه في إطار المصلحة الوطنية وتطويره ليصبح ظاهرة وقدوة حسنة للآخرين الشرفاء الصامتين والذين يرقبون بعيون وآذان مفتوحة كيفية التعامل مع مثل هذه الخطوة من قبل أطراف المعارضة في الخارج .

الأمر الآخر الذي يفرض على المعارضة السورية أن تنتقل من التعامل الوطني العاطفي إلى حالة التعامل الوطني العقلاني مع موضوع دورالخارج في عملية التغيير , وأن لاتكون أسيرة المعادلة المدمرة لسورية وهي إما بقاء النظام أو التدخل الخارجي والذي يضخمها النظام بنجاح لحجب او إلغاء البديل الوطني الحقيقي المرتبط بأهداف الشعب الأساسية واستقلاله والحفاظ على وحدة البلاد ورفض التدخل الخارجي.

خلاصة القول : أن التغيير في سورية شأنه شأن أي تغيير في أية دولة في العالم هو ليس وحيا ً ينزل على هذا الطرف أو ذاك من أطراف المعارضة ويدعي أحقيته في إبلاغ الآخرين به وبالتالي يحدد لهم المقبول والمرفوض من الأمور بل هو سعيا ً لإنتاج منهج عملي للتغيير, وبشكل أكثر مباشرة إن عملية التغيير في سورية لايمكن عزلها عن محيطها الوطني والإقليمي والدولي وليس هناك عملية تغيير هنا أوهناك سابقا ً أولاحقا ً بدون تداخل العوامل الداخلية والخارجية وهذا مايجب أن تدركه جيدا ً المعارضة وأن تتعامل معه بالمرونة المحسوبة لتجنيب البلاد المخاطر وضمن سقف الثوابت الوطنية والمصالح العليا للبلاد .

بقي أن نقول : إن سورية على أبواب ضياع وفي لحظة حرجة للغاية في تاريخها وإذا لم ترتق المعارضة إلى مستوى خطورتها بأداء سياسي وطني جديد وفعال مبني على استيعاب كل المعطيات الداخلية والخارجية وتطويعها لمصلحة التغيير,وأن تكون صادقة في منهجها بتبني الديموقراطية التعددية وأن تُفعّل عملها وتقطع الطريق على الإستبداد الذي يريد أن يحول سورية إلى أول جمهورية وراثية أبدية في التاريخ !.