عاش العالم العربي في ظل الاستعمار شقاء طويلاً. ولم يكتف الغرب بما استعمر بل ترك لنا اكبر مأساة واعقد مشكلة في التاريخ، عندما تآمر لاستبدال اسرائيل بفلسطين. غير انه ترك لنا ايضاً انظمة مختبرة ومجربة: القضاء المستقل والبرلمان ونظام المحاسبة وحرية الصحافة. وقرر رجال الاستقلال الاوائل ان يطبقوا على بلدانهم المحررة ما كان يطبقه الاستعمار على بلاده: الحريات العامة ومؤسسات المحاسبة والبرلمان. ولم تكن التجربة ناجحة او كاملة في اي مكان. لكنها كانت باهرة في مصر والعراق وسورية ولبنان. ففي القاهرة كانت السلطة الحقيقية للحزب الوطني (الوفد). وكان الملك نفسه يكره الانكليز ويكرهونه. وفي بغداد ودمشق ظهرت زعامات وطنية كثيرة وكان الشعور العربي في غلوائه. لكن كل التجارب لم تعش سوى سنوات قليلة جداً وسرعان ما سقطت بالانقلابات العسكرية في كل مكان. وكانت الذريعة فلسطين وهزيمة الجيوش العربية فيها. وحلت محل البرلمانات والتعدديات والصحف، الدبابات والطائرات والثكنات. ولا ضرورة لتكرار ما حدث من مشاهد وفصول.

لكن لنطرح سؤالاً بسيطاً واحداً: ماذا لو ان نظاماً تعددياً ساد في العراق بعد الاستقلال؟ ماذا لو كان هناك مكان للاكراد ومكان للشيعة وصحف للاقليات ومقاه للجميع؟ ماذا لو ان جميع العراقيين شعروا بأن العراق بلدهم، وبأن قرار المصير في يد الناس وليست في تكريت؟ وماذا لو ان الخلاف بين الاكراد او الشيعة مع السلطة كان في البرلمان او في الصحف؟

اي مجتمع، هو هذا المجتمع الذي انشأته بعض الانظمة العربية، ونراه اليوم يندفع مرة واحدة نحو الانفجار القاتل الاخير؟ اي تسامح علمته تلك الانظمة في مدارسها؟ وماذا علمت في المدارس سوى عبادة الزعيم والانحناء له؟ وكيف يمكن ان نقارن المنهج التعليمي والمستوى الجامعي في العراق، ايام «العهد البائد» وايام حسين كامل المجيد وزيراً للتصنيع وقيّماً على جامعات بغداد واساتذتها، بما فيها «كلية الحقوق».

اين هي جذور ما يحدث في العراق الآن؟ ولكن هناك من يسأل، هل حمى النظام الديمقراطي وحرية الصحافة لبنان من الحرب الاهلية؟ لا. لأن الدولة اللبنانية كانت متخاذلة لا منفتحة، وكانت سائبة لا متسامحة، وكانت فاسدة لا حرة. لذلك سقطت بسرعة. الدول الضعيفة معرضة للخراب اكثر من الدول المستبدة.